أول هذه الوقفات أجعلها في أمر مهم أساسي، وهو الذي نريد أن نقول فيه: لم سمينا مهمة التربية والتعليم أخطر المهمات؟ إن ذلك لأمرين اثنين: الأول -وهو ما نريده بالصورة الإيجابية-: إدراك الأثر والقوة التأثيرية للعلم والتعليم، فإن مقياس قوة الأمم اليوم لا يعد بكثرة جيوشها وأسلحتها، بل قبل ذلك بكثرة المتعلمين فيها، وبوجود مؤسسات التعليم التطبيقية الراقية العالية، وبوجود مراكز الأبحاث والدراسات المستمرة المتتابعة، تلك التي جعلت القرن الماضي الذي ربما شهد أكبر مخترعات في تاريخ البشرية تستأثر دولة واحدة فيه بنحو (30%)، ومجموعة من الدول الغربية بنحو (30%)، ثم يتوزع الباقي على كل بلاد الدنيا، ثم يكون حظ دولة الغصب الصهيونية معادلاً لمجموعة الدول العربية كلها وأكثر! ولا بد أن ندرك أن ذلك ليس من مجرد هذه الحقائق الواقعية فحسب، بل من آياتنا القرآنية ومن إرشادات نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل:78].
إن التحليل في هذه الآية ومثيلاتها يعطينا الأهمية القصوى والمفاتيح الأساسية الرئيسة التي بها تغير الأمم وتبدل أحوالها من ضعف إلى قوة، ومن تفكك إلى ترابط، ومن تراجع إلى تقدم.
فالأول السمع، والمقصود به تلقي العلوم وأخذها من كل جهة، فالحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها، ويكون مع السمع التدبر والتحليل والتقسيم والتبويب، وأما النظر والبصر فالمقصود به المعاينة والمشاهدة والتجربة والاستنباط والدقة في معرفة ما يرى ويشاهد، نحن نرى كل شيء في هذا الكون، فلا يكاد يسترعي انتباهنا ولا يلفت نظرنا، ولا يشغل تفكيرنا، بينما نرى الأمم المتقدمة المدنية من حولنا وهي تدرس الظواهر تنظر بعين البصيرة لا بعين البصر فحسب.
ثم يأتينا من بعد ذلك البصر والفؤاد، والفؤاد المقصود به القلب والعقل الذي يحدد ويقوم المسار، والذي يكشف عن آثار هذه المعرفة المستقاة من الجوارح في تأثيرها النفسي والقلبي والسلوكي من بعد ذلك، والتي تضبط المسيرة، وتحدد المعالم وترسم المناهج، وترمي إلى الغايات النبيلة السامية.
وأمر آخر في هذه الأهمية، فنحن نرى اليوم -كما قلنا- أن أصحاب القوة هم أصحاب العلم والتقنية والمعلومات، ويعرفون عنا عن بلادنا وعن ثرواتنا وعن إحصاءاتنا أكثر مما نعرف عن أنفسنا.
لكن جانباً آخر يكشف عن الأهمية والخطورة، وهو ضرورة التميز، فالعلوم المدنية المادية مشترك واحد، فالماء تكوينه عندي وعند غيري من غير المسلمين وعند أهل الشرق والغرب واحد، لكن ما وراء ذلك من التصور والاعتقاد والفكر، وما وراء هذه الظواهر الكونية، بل ما وراء الكون كله والحياة كلها يختلف عندنا -معاشر المسلمين- عن غيرنا من الأمم، والأمم التي تقدمت اليوم في المادة فشلت في الجملة أن تتقدم في ميدان الخلق، فلا القلوب مشرقة مضيئة، بل هي في جملتها مظلمة كدرة، ولا النفوس زاكية طاهرة بل كثير منها متدنسة قذرة، ولا الصدور منشرحة طيبة بل كثير منها ضيق حرج.
نحن الأمة التي أعطينا التميز في الجمع بين جانب المادة والروح، بين جانب العلم المادي والعلم المعنوي، ولقد لخصت آيات القرآن مهمة النبي صلى الله عليه وسلم، وهي مهمة كل معلم وداعية من بعده: {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ} [البقرة:129] وتلاوة الآيات هي نقل العلوم والمعرفة وسردها وعرضها بفنون مختلفة وبأساليب متنوعة.
كان قدوتنا فيها رسولنا صلى الله عليه وسلم يوم تدرج في التعليم واستخدم وسائله المختلفة، يوم رأف بالجهلة والذين عندهم شيء من التسرع، يوم كانت سيرته وشخصيته أنموذجاً فريداً للمعلم الحاني البصير.
ثم {وَيُزَكِّيهِمْ} [البقرة:129] فلا خير في علم لا يخلص إلى القلب، ولا ينفذ نوره إلى النفس، ولا يظهر أثره في السلوك.
تلك هي المعادلة المهمة، كل آية تقرأ، كل حديث يروى، كل معلومة تحفظ، كل حقيقة علمية تتجلى ينبغي أن تسكب مزيداً من الإيمان في القلب، ومزيداً من الطمأنينة في النفس، ومزيداً من التعظيم للخالق، ومزيداً من الثقة بالمنهج وارتباطاً بالكتاب والسنة.
أين هذا من ممارساتنا التعليمية في مدارسنا ومعاهدنا؟! أين هذا مما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم روى أصحاب أصحابه رضوان الله عليهم من التابعين (كان الذين يقرءوننا القرآن من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كـ أبي وعثمان وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم لا يتجاوزون بنا العشر من الآيات حتى نفقه ما فيها من العلم والعمل، فتعلمنا العلم والعمل معاً).
{وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [البقرة:129] وذلك هو التطبيق العملي، والمقصود بالحكمة سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وهي كما أوجزت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (كان خلقه القرآن) قرآن يمشي على الأرض، سلوك راق، خلق سام، قيم فاضلة، معاملة لا مثيل لها، إنسانية لا يبلغ أحد مبلغها، تلك هي الصورة المثلى للمعلم الأمثل صلى الله عليه وسلم.
إذاً فقيادة المجتمعات في داخل الأمم وقيادة الأمة لغيرها من الأمم مربط فرسها ومحور رحاها هو التعليم والتربية، والأخذ بأسباب القوة العلمية المادية في العلوم الدنيوية، لكن بمنهج متميز في الارتباط بالله.
تلك الآية الأولى، (اقرأ)، تعلم وخذ، لكن باسم ربك لا باسم الهوى، لا باسم النزعة الإنسانية الطاغية، لا باسم الشهوة التي فيها نوع من العدوان البشري باستخدام القوة والتسلط على البشر، هذه مزيتنا نحن أمة الإسلام.