قصة شعيب مع قومه فيها ومضات منهجية نؤسس بها لقضية الإصلاح: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ} [هود:84].
نبي من أنبياء الله، والأنبياء هم صفوة المصلحين، وخلاصة الذين رسموا المنهج القويم للإصلاح على هدي من ربهم، وبنور من وحيه، وبرقي وسمو بما كانوا عليه من صلاح السرائر، وجمال الأخلاق، ورشد العقول، وحسن التدبير، وكمال السياسية.
هذه دعوة شعيب يبدؤها بأول وأهم وأعظم أساس لا يكون إصلاح إلا به، أساس الإصلاح الاعتقادي الإيماني الذي يعلق القلوب بتوحيد الله وتعظيمه، فلا شرك ولا إشراك ولا توزع لهموم الإنسان وطموحاته أو خوفه ورجائه إلى آلهة متعددة وإن لم تسم آلهة.
أول دعوة بدأ بها شعيب وبدأ بها كل الرسل والأنبياء: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [هود:84]، هذه الدعوة الإصلاحية الأولى.
كم نحن في حاجة إلى إصلاح مسائل الاعتقاد والإيمان من جهات ووجوه شتى، منها العلم والمعرفة المبنية على الدليل الثابت من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، بعيداً عن انحراف الآراء وانجراف الأهواء.
كم نحن في حاجة من جهة أخرى إلى دحض الشبهات، وإلى بيان فساد المبتدعات، وإلى التذكير والتحذير من خطورة الشركيات، ليس من ذلك شيء إلا ونحن في أمس الحاجة إليه، وليس من ذلك شيء إلا وهو من أعظم وأسس الانحراف والضعف والزيغ الذي حل بأمتنا، أو بكثير من أبنائها وفي كثير من أصقاعها.
ثم نحن كذلك في حاجة إلى مراجعة الأثر الحقيقي للإيمان في واقع الحياة، هل قضايا الإيمان تشربتها القلوب؟ هل حقائق الإيمان رسخت في النفوس؟ هل أصبحت تجري مع الدماء في العروق؟ هل تضبط الخواطر والأفكار؟ هل تهذب الأقوال والكلمات؟ هل تقوم السلوك والأعمال؟ هل تحكم بين الناس فيما يجري بينهم من الأمور؟ هل تضبط أمور معاملاتهم المالية؟ هل هي حقيقة حية واقعة تتجلى في سجود جباههم، ودموع أعينهم، ووجل قلوبهم، وورع نفوسهم؟ هل حقيقة الإيمان موجودة؟ لو أنها كانت على النحو المطلوب، وعلى الوجه الكامل، وعلى الصورة المؤثرة لرأينا كثيراً من وجوه الفساد والقطيعة والخلاف تنتهي وتزول من واقع حياتنا، ولكنه الإيمان إذا انحرف ضل أربابه إلى صور من شرك أو انحراف وابتداع، وإذا ضعف فاستولت الدنيا بشهواتها على القلوب، وسيرت النفوس، وحكمت في العلائق والأحوال المختلفة؛ فحينئذ لا يرجى أن يرجى أثر لأي إصلاح، وذلك ما دام الفساد في القلوب مستقراً، وما دام الكدر والقذر موجوداً في النفوس لم تطهره قضايا الإيمان وحقائقه كما ينبغي.
إن طهارة القلوب، وزكاة النفوس، ورشد العقول، وحسن الأقوال، وصحة الأعمال، وصلاح الأحوال، لا يمكن أن تنطلق إلا من أساس صحيح لاعتقاد صحيح راسخ مؤثر، ذلكم هو أساس الإصلاح والتغيير الذي جاء به سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم، يوم بذر بذرة الإيمان في قلوب قوم من أهل الشرك والكفر والجاهلية والعصبية، كانوا أهل فسق وفجور، أهل انحراف وأهواء، فإذا بهذا الإيمان يغير حياتهم، ويؤسسها على قاعدة جديدة متينة من شهادة التوحيد، ومن معرفة حقائق الإيمان وتأثيره في النفوس.
وتلك هي القضية التي جاء بها الرسل والأنبياء، جاء بها شعيب هنا وقدمها لتكون أساساً يبني عليه الإصلاح الاقتصادي الذي كان الإفساد فيه شائعاً في قومه، وجاء بها موسى عليه السلام ليصلح الفساد والطغيان السياسي الذي كان عليه فرعون، وجاء بها لوط ليصلح الإفساد الأخلاقي الذي كان في شذوذ قومه وانحرافهم فيما يأتون من الذكران.
فكل قضية إصلاحية إنما يؤسس لها بتأسيس صلاح الإيمان، وصحة الاعتقاد، وحسن التعلق بالله، وكمال الرجاء فيه، وعظمة الخوف منه، وصدق التوكل عليه, ودوام الإنابة إليه، تلك هي التي تحسن بها أحوال الناس في معاشهم، وتكون بعد مماتهم سبباً لنيل رحمة الله عز وجل ورضوانه.