مكانة مسئولية تربية الأبناء في سنة النبي عليه الصلاة والسلام وسيرته

نقف وقفات مع سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، وأعظم المربين في تاريخ البشرية كلها، ففي سنته الكثير والكثير مما يلفت أنظارنا إلى هذه المهمة الجسيمة، وحسبنا ذلك النداء الشامل الذي فصل فيه النبي صلى الله عليه وسلم بعض التفصيل: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسئول عن رعيته، -ثم ختم عليه الصلاة والسلام بالتأكيد مرة أخرى- ألا كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته) ألست تنفق على أبنائك وتأتيهم بالطعام والشراب والكساء؟ هل ترى أن أحداً مسئول عن ذلك غيرك؟ لكنك بعد ذلك تهبهم للشوارع أو للقنوات لتعلمهم وتربيهم، أو لأصحاب الشر والسوء ليفسدوا فطرهم ويسودوا قلوبهم ويحرفوا سلوكهم، هل تخليت عن هذه الأمانة وبقيت للطعام والشراب؟ هل جاء أبناؤك ليكونوا بالنسبة لك كالبهائم تعطيها علفها حتى تمضي وتتحرك دون أن تشعر بالأمانة العظمى وهي التربية على الإيمان، وتقويم السلوك، وتحسين الأخلاق وغير ذلك مما هو معلوم من أسس التربية؟! ورد في مسند أحمد وسنن أبي داود وغيرهما قوله عليه الصلاة والسلام: (مروا أبناءكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر) والسبع والعشر ليستا سن تكليف ووجوب، ولكنهما سن تمييز وتربية، من الذي يقوم بها؟ أنتم.

(مروا) أنتم، ينبغي ألا تنسوا ذلك وألا تغفلوا عنه، ما بالك تخرج إلى المسجد في الغلس لصلاة الفجر، وحولك من الأبناء والبنات من لم يستيقظوا لأداء عبادة الله والقيام بفريضة الله؟! تمضي مسبحاً وترجع محوقلاً وبينهما تكون ذاكراً وقارئاً ومصلياً، والأمانة التي فوق ظهرك قذفت بها وألقيتها، كأن لم يكن عليك من الله فيها أمر ولا تكليف ولا واجب، كأن لم يكن لك فيها من رسول الله صلى الله عليه وسلم هدي ولا توجيه ولا تعليم!! وهكذا نمضي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لنرى كيف يراعي الأمور الدقيقة؟! وكيف اعتنى بها ووجه إليها وربى عليها، حتى فيما هو دقيق خفي لا يكاد يعرفه أولئك الصغار من الأطفال؛ لأن صفحات قلوبهم بيضاء، كل كلمة تكتب فيها، كل سلوك ينطبع أثره فيها، فإن كان خيراً أورث الخير، وإن لم يكن في ذلك السن مدركاً وواعياً، لكنها آثار وبصمات ما تزال تترسخ في أعماق نفسه وسويداء قلبه، ما تزال تصبح من أسس فكره ورشد عقله، ثم إذا بها تنعكس على سلوكه وحسن أدبه.

فهذا الحسن بن علي رضي الله عنه ريحانة من ريحانات الجنة، حفيد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو صغير في سن دون التكليف بل ربما حتى لم يكن مميزاً، وقد جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم تمر من تمر الصدقة، فإذا بالصغير يمد يده ليأكل، فينهاه نبي الله صلى الله عليه وسلم نهياً رفيقاً خفيفاً: (كخ كخ، أما شعرت أنا لا نأكل الصدقة؟) أي: أنت من آل البيت والصدقة تحرم عليك، والصغير لا يعرف ذلك، ولا يعرف تلك الأحكام، لكن الكبير المربي صلى الله عليه وسلم يريد من البدء في أول الأمر ألا يدخل إلى جوف ذلك الطفل الصغير إلا ما حل، وأن يكون هناك تقويم يرشد إلى التمييز من أول الأمر بين الخير والشر والحلال والحرام، يريد أن يغذي الفطرة النقية بنور التقى والهدى، وأساس الخلق القويم والأدب الجم.

وهكذا نراه عندما كان ابن أبي سلمة ربيباً في بيته وهو ابن أم سلمة أم المؤمنين، كان يأكل فتطيش يده في الصحفة، فيقول المربي العظيم: (يا غلام! سم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك) حتى هذه الآداب يعلمها النبي صلى الله عليه وسلم؛ ليبين أن المهمة ليست مقتصرة على المهم العظيم من الفرائض كالتوحيد وسائر العبادات، بل للآداب والأخلاق وما هو من المكملات مكانة عظيمة في حديثه صلى الله عليه وسلم وسيرته، فقد بين أن الأمانة مربوطة بأعناق الآباء والأمهات حيث قال: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) ولم يقل: أو يمسلمانه؛ لأن الإسلام مغروس في فطرته، لكن كيف نغذيه؟! كيف ننميه؟! كيف نسقيه؛ لتنبت شجرته يانعة، وتكون ثماره ناضجة بإذن الله عز وجل؟! هذه ومضات، ونحن عندنا ما يكفينا لكي نؤسس تربية عظيمة كاملة منهجية قويمة؛ لأن عندنا النهج القويم، والهدى المستقيم في كتاب الله عز وجل: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة:15 - 16] عندنا هذا ولا نبذله لأبنائنا، ولا نربيهم عليه، وعندنا من بعد ذلك الصورة المثالية الحية المتحركة في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21] وعندنا بعد ذلك أجيال عظيمة وقمم شامخة وقدوات سامية من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين والأئمة والعلماء، لنا رصيد عظيم، فما بالنا نتنكر له وننساه، ونبقى مع سقط المتاع وأراذل القوم من شرق وغرب؟! يقول ابن مسعود رضي الله عنه: (من كان متأسياً فليتأس بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنهم كانوا أبر هذه الأمة قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، وأقومها هدياً، وأحسنها حالاً، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم في آثارهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم).

طور بواسطة نورين ميديا © 2015