نحن -عندما نوقن بآيات الله- لا نحتاج إلى تنديد أهل الأرض، وإلى تهديد القوى الفارضة التي لا تقوم ولا تنطلق من قاعدة الإيمان بالله، ولا ترتبط بمنهج الإسلام، ولئن كان ذلك غيض من فيض آيات كثيرة، ومواقف وقصص عظيمة ذكرت في كتاب الله؛ فإن لنا كفاية من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وتنديده وتهديده، توجد صور كثيرة لنا وليست لأعداء الله، بل هي فينا معاشر المسلمين، من الذين لهم الصدارة في أمتنا ولاة وحكاماً وقادة، وإلى من دونهم من كل من له ولاية، ومن في يده سلطة، وغير ذلك من وجوه لا يكاد يخرج عنها أحد منا بحال من الأحوال.
وحينئذ نقولها ونحن بقلوب ثابتة وبصوت عال؛ لأن الناطق بها سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، وهل يستطيع أحد مهما علا وعظم أن يرد قوله عليه الصلاة والسلام، أو أن يستهين بتهديده ووعيده، وهو صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4]؟! عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الأئمة من قريش) فله عليه الصلاة والسلام حق، وللأئمة حق كذلك، ثم يقول عليه الصلاة والسلام في شأن الأئمة: (ما إن استرحموا رحموا، وإن عاهدوا وفوا، وإن حكموا عدلوا، فمن لم يفعل ذلك منهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين) رواه أحمد في مسنده بسند جيد، ورجاله ثقات، ورواه أبو يعلى في مسنده والطبراني في معجمه.
وعن أبي هريرة عن المصطفى صلى الله عليه وسلم: (ما من أمير عشرة إلا يؤتى به مغلولاً يوم القيامة حتى يفكه العدل، أو يوبقه الجور) رواه البزار في مسنده، ورجاله رجال الصحيح.
(ما من أمير عشرة) فكيف بأمير الملايين المتولي أمرهم باسم الله، وبادعاء القيام بأمر الله، والذب عن شريعة الله، والحفظ لحقوق عباد الله؟ أفلا يرعوي كل من يسمع ذلك؟ أليس في هذا أعظم تهديد تنخلع قلوب من في قلوبهم ذرة إيمان، أو بقية أثر من إسلام؟ إن الأمر أعظم مما نتخيله ونتصوره، وهذا دعاء من رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، ودعاؤه مجاب، تروي هذا الدعاء عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اللهم! من ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به) رواه مسلم في صحيحه.
إلى الذين يشقون على عباد الله، ويتعنتون معهم، ويسرفون في تعذيبهم وإيذائهم، وإلحاق الضرر والشر بهم على كل مستوياتهم المختلفة، وفي كل مسئولياتهم المتنوعة؛ فليعلموا أن الله عز وجل يجازيهم من جنس عملهم، وأنه يلحق بهم عاجلاً أو آجلاً مثلما فعلوا بغيرهم، ومن لم يجد شيئاً في الدنيا من مثل هذا فإنما ذلك -والعياذ بالله- دليل على عظمة سخط الله عليه، وأنه ادخر له العذاب فلم يعجله له في الدنيا، فأجله له، وسيجعله له مضاعفاً في الآخرة.
ومعقل بن يسار رضي الله عنه يروي الحديث الذي يحفظه كثير من الناس: (ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة)، وفي الرواية الأخرى: (ما من عبد يسترعيه الله رعية فلم يحطها بنصحه إلا لم يرح رائحة الجنة) متفق عليه.
أفلا يستمع إلى ذلك قادة الأمة وحكامها؟ أحوال أمتنا في أكثر بلادها تستحق أن ينطبق عليها مثل هذه الأحاديث التي قالها الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، أفيخشون من أمريكا أو غير أمريكا، ولا يخشون من الله عز وجل؟! أفيرضون أن يعملوا قوتهم وقدرتهم في سخط الله عز وجل، ويخشون أن يفعلوا أقل القليل مما يُظن أنه يسخط أعداء الله؟! أفلم يسمع الناس جميعاً حديث أم المؤمنين عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من ابتغى رضا الله بسخط الناس؛ رضي الله عنه، وأرضى عنه الناس، ومن ابتغى سخط الله برضا الناس؛ سخط الله عليه، وأسخط عليه الناس)؟! إن الأحوال لا تقتصر على من بيده الأمر أو الحكم أو السلطان، بل تعم كل أحد في مسئوليته، حتى تعم الفرد الذي ليس له مسئولية عن غيره؛ لأن له مسئولية عن نفسه.
ولذلك استمعوا إلى هذا الحديث أيضاً، وما فيه من التهديد والوعيد: (صنفان من أمتي لن تنالهما شفاعتي: إمام ظلوم غاشم، وكل ضال مارق) رواه الطبراني في المعجم الكبير ورجاله ثقات.
(كل ضال مارق) كم فينا نحن معاشر المسلمين من يصدق فيه ذلك؟! وهكذا كلنا يعلم أن الظلم منه ما هو يسير، ومنه ما هو عظيم، ومنه ما هو محدود الدائرة، ومنه ما هو واسع، والنصوص كلها تتناول ذلك قليلاً كان أو كثيراً، عن أبي موسى رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله يمهل للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، ثم قرأ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102])، من يستطيع أن يفلت من قبضة وغضبة الله جل وعلا إذا ظلم وقد حرم الله الظلم، وإذا بغى وقد وعد الله عز وجل أن ينتقم لمن بُغي عليه؟ كل من يظلم على خطر، حتى من يظلم زوجته، أو يظلم الموظف الذي تحته، فضلاً عمن يظلم رعيته.
وهكذا نرى الصور المختلفة التي تمضي بنا إلى تفصيل وتحديد، وتصور لنا الواقع كأنما هذه الأحاديث -وهي التي قالها النبي صلى الله عليه وسلم- تخترق حجب الغيب، وتتجاوز آفاق الزمان؛ لتكون في كل وقت وآن، تكشف للناس عموماً، وللمسلمين خصوصاً كيف يعرفون واقعهم، وكيف يعرفون أين يضعون مواطئ أقدامهم قبل أن تزل الأقدام، وقبل أن يحصل لهم ما لا يرجونه من السخط والغضب الرباني.
عن عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا أراد الله بالأمير خيراً جعل له وزير صدق، إن نسي ذكره، وإن ذكر أعانه، وإن أراد الله به غير ذلك جعل له وزير سوء، إن نسي لم يذكره، وإن ذكر لم يعنه)، وهذا واقع حال كثير من ولاة أمتنا.
وهذا هشام بن حكيم مر في بلاد الشام، ورأى بعض الأنباط من غير المسلمين في حر الشمس، ويوضع عليهم شيء من الزيت عقاباً لهم؛ لأنهم لم يؤدوا الجزية، وربما كان ذلك عن غير إمكان، فقال: أشهد الله أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا) رواه مسلم في صحيحه.
فليخش الذين يعذبون عباد الله، والدعاة إلى دين الله، والعلماء الناطقين بالحق، المبينين لشرع الله، وليخش كل من يظلم أحداً دونه في القوة، فإنه ما من شيء إلا وله عقوبته دنيا وأخرى، نسأل الله عز وجل السلامة من ذلك! عن أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من ضرب سوطاً ظلماً فإنه يقتص منه يوم القيامة)، يقتص ولو في سوط واحد، فكيف بما هو أعظم من ذلك؟! أيها الإخوة المؤمنون! إن الأحوال التي تجري ينبغي أن تزيدنا يقيناً بوعد الله عز وجل، وبصيرة بسنن الله سبحانه وتعالى، وينبغي أن تردنا بقوة أكثر إلى دين الله وشرعه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وينبغي أن تدعونا إلى التشبث والاعتزاز والاستعلاء بدين الله، وينبغي في آخر الأمر أن تكشف لنا حقائق أعداء الله، وأن نعلم أن قوتهم الدنيوية لا يعبأ بها، ولا يخشى منها من كان الله معه: {وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد:35].
أسال الله عز وجل أن يكشف الغمة، وأن يرفع البلاء عن الأمة، وأن يعيدنا ويردنا إلى دينه رداً جميلاً.
أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.