الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه.
إن خامس هذه الأبواب والطرق والمسالك التي يسلكها طلاب الدنيا، وهو باب ومسلك قل من يسلم منه: حب الدنيا وطلب السلامة: أخبر النبي عليه الصلاة والسلام في حديث معروف متداول محفوظ عند كثير من الناس بقوله: (يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، قالوا: أومن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: لا! إنكم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من قلوب عدوكم المهابة منكم، وليجعلن في قلوبكم الوهن، قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت).
مما يغلب على أهل الدنيا تشبثهم وتمسكهم بها، وخوفهم من أي طريق يظنون من قريب أو من بعيد أنه يخرجهم عنها وينقلهم عنها، فهم يخافون الموت في صبحهم ومسائهم، فهم فيما يسمعون: يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمُ، وفيما ينظرون مما يتعلق بحياتهم: تراهم تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت من شدة الخوف والرهبة، فهم قوم قد آثروا السلامة: حب السلامة يثني هم صاحبه عن المعالي ويغري المرء بالكسل وهي صفة ذميمة مرذولة، وصم الله عز وجل بها اليهود عليهم لعائن الله، فقال جل وعلا: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ} [البقرة:96] يحرصون على أية حياة، ولو كانت حياة ذل، ولو كانت حياة يبيعون فيها مبادئهم، وينافقون فيظهرون خلاف ما يبطنون، ويتراجعون فلا يثبتون، كما أخبر الحق جل وعلا عن وصف بعض أولئك: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج:11].
هؤلاء قوم إذا رأوا أن حظهم من الدنيا سيذهب، أو أن طريقهم إليها سينتهي، طلبوا الخلاص والحياة ولو ببيع دينهم، ولو بالتفريط في أعراضهم، ولو بذلة نفوسهم، ولو بأي شيء يفعلون: يعطيك من طرف اللسان حلاوة ويروغ منك كما يروغ الثعلب والقرآن قد أفشى خبر أولئك: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [البقرة:204] {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ} [البقرة:205]، أولئك المنافقون الذين يبطنون خلاف ما يظهرون، وكم في بيئات ومجتمعات المسلمين من هذه العينات التي تشدها الأرض شداً وتجذبها الحياة جذباً، كما أخبر الحق جل وعلا: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} [الأعراف:176].
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم في أثر الحياة وملذاتها والتعلق بها، فقال: (الولد مجبنة مبخلة) أي: باعث على الجبن وباعث على البخل، ولذا يقول الحق سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن:15].
فينبغي للمرء ألا يجعل حب الحياة وتغلغلها في قلبه مانعاً من الثبات على الحق، أو المضي في الواجب، أو القيام بالأمر، وينبغي ألا يكون في حال من الأحوال معطياً للدنية في دينه، أو بائعاً دنياه بأخراه، فذلك هو الخسران المبين.