ثم تأمل كذلك مسألة مهمة في شأن المخالفة أشار إليها علماء السنة وشراح الحديث، فيما ساقه ابن حجر في شرحه على البخاري قال: ورد في مسلم: (لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع)، فمات قبل ذلك، ثم أشار إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في أول الأمر يحب أن يوافق أهل الكتاب ويخالف أهل الأوثان، فلما فتح الله مكة وانتشر الإسلام أحب مخالفة أهل الكتاب، أي: تمييزاً لأمة الإسلام عنهم.
وهنا دروس كثيرة من فطنة، وحكمة، ومراعاة للواقع، والتفات إلى تحصيل المصالح، إن قارنا إيماناً ورسالات سماوية وكتباً ربانية، وإن وقع فيها تحريف وتغيير وتبديل، لا نستطيع أن نجعلها في مرتبة كفر وشرك وعبادة أوثان، فتلك أقرب، والموافقة لها أنفع، وكان ذلك من حكمة النبي صلى الله عليه وسلم؛ ليعلم الناس أن آثار النبوة واحدة، وأن أصلها من الله جل وعلا، وأن الوحي في أصله وفي الدين الذي جاء به إنما هو توحيد الله والإسلام.
ثم لما اقتضت الحكمة من بعد قوة الإسلام وانتشاره، وهزيمة الشرك واندحاره، وبطلان الجاهلية وانطفاء أنوارها، وذهاب هيبتها، أراد أن يعلم المسلمين وغير المسلمين بتميز الإسلام وفضله، فكانت له توجيهات وإرشادات إلى المخالفة المقصودة لذاتها تمييزاً وتفضيلاً كما قال أهل العلم، قال: (لأصومن التاسع) أي: وحده، وهذا قول وإن كان ليس هو الأقوى، أو لأضيفن إلى العاشر التاسع مخالفة لليهود والنصارى من جهة، وزيادة في الفضل والعمل من جهة أخرى، ومن هنا قال العلماء: إن صيام يوم عاشوراء على ثلاث مراتب: أن يصام وحده، فهذه مرتبة، وأفضل منها أن يصام معه التاسع، وأفضل منها أن يصوم يوماً قبله ويوماً بعده فيجمع فضل الصوم، وإدراك إصابة السنة، وتحقيق مخالفة اليهود، وزيادة العمل.
نسأل الله عز وجل أن يكتب لنا ولكم الأجر والثواب، وأن يوفقنا لمتابعة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وأن يعيننا على شكر الله عز وجل على نعمه، والقيام بحقها، والحمد لله رب العالمين.
وأقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.