ورد في ترجمة الشافعي رحمة الله عليه كما في سير أعلام النبلاء أنه قسم الليل أثلاثاً: ثلثاً يكتب، وثلثاً يصلي، وثلثاً ينام، قال الذهبي: قلت: أفعاله الثلاثة عبادة بالنية، حتى النوم وحتى الكتابة للعلم تعتبر عبادة لما نوى فيها من الخير، فإذا كان هذا في الليل الذي هو موضع الراحة، فكيف بالنهار الذي هو موضع العمل، والله عز وجل ما خلق الليل والنهار ولا تتابعهما إلا ليكونا محل عمل وجهد في الطاعة، كما قال سبحانه وتعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان:61 - 62]، (خلفة): يخلف بعضهما بعضاً، (لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا)، أي: أن يغتنم هذا الوقت، وقد ورد في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (أعذر الله إلى امرئ أخر عمره حتى بلغ الستين) أي: قد مد له في العمر وانقطعت حجته وفرط في عمره فلم يكن له حينئذ من عذر له إذا كان مواجهاً بالعقاب من الله سبحانه وتعالى.
أبو الوليد الباجي وهو من علماء المالكية يخاطب نفسه في مسألة استغلال الوقت فيقول: إذا كنت أعلم علماً يقيناً بأن جميع حياتي كساعه فلم لا أكون ضنيناً بها وأجعلها في صلاح وطاعه العمر مثل غمضة عين يمر كأنه أحلام، وتمر الأيام كأنها لحظات، فلماذا ألا يكون المرء ضنيناً بوقته كما كان شأن السلف الصالح.
وهذا أبو الوفاء ابن عقيل الحنبلي يقول عن نفسه: قد عصمني الله في شبابي بنوع من العصمة، وقصر محبتي على العلم، وما خالطت لعباً قط.
أي: لم يكن هناك وقت للعب، ولو تجاوزنا وقلنا: إن هناك وقتاً للعب فإنه يكون وقتاً بين عملين ليخفف من الأول وينشط للثاني، أما أن يكون اللعب والتفريط في الأوقات هو الغاية فهذا ما لا ينبغي أن يكون.
يقول: وما خالطت لعباً قط ولا عاشرت إلا أمثالي من طلبة العلم، وأنا في عشر الثمانين -يعني: في العشر الثامنة من عمره- أجد من الحرص على العلم أشد مما كنت أجده وأنا ابن عشرين.
ويخاطب نفسه ويقول: لا أجد حلاً وجوازاً في أن أفرط في وقتي، ثم يقول: فإن تعبت عيني من نظر وكلت يدي من كتابة، فلا أقل من أن أنطرح وأشغل فكري في أمر أو مسألة من الخير.
كان أبو عبيد القاسم بن سلام -كما في وفيات الأعيان- يفكر في المسألة من مسائل العلم، فإذا فتحت عليه قفز من شدة الفرح، وربما مضى ليلة كاملة يفكر في بعض مسائل العلم حتى يفتح عليه فيها.
وأبو بكر محمد بن عبد الباقي وهو من سلالة كعب بن مالك رضي الله عنه يقول: حفظت القرآن وأنا ابن سبع سنين، وما من علم إلا وقد نظرت فيه وحصلت منه الكل أو البعض إلا هذا النحو فإني قليل البضاعة فيه، ثم قال: وما علمت أني ضيعت ساعة من عمري في لهو أو لعب! وكان ابن عساكر -كما في السير- مواظباً على صلاة الجماعة وتلاوة القرآن، وقيل في وصفه: وكان يحاسب نفسه على لحظة واحدة تذهب في غير طاعة.
قال تلميذه: كان يشتغل منذ أربعين سنة بالجمع والتصنيف والتسميع حتى في نزهته وخلواته فهو حتى النزهة لا يخليها من الفائدة؛ لأنه ليس هناك وقت للفراغ وللبطالة.
وهذا الإمام الحافظ عبد الغني المقدسي كان لا يضيع شيئاً من زمانه بلا فائدة.
ثم ذكر الذهبي جدوله اليومي، وهو جدول عجيب ليس فيه إلا الصلاة والتحديث والقرآن والمذاكرة في العلم بلا انقطاع وبلا ضياع وقت.
ولذلك كانت هذه الصور وغيرها مما سيأتي ذكرها تتنافى مع مثل هذه المفاهيم التي تروج، وربما روجها بيننا أعداؤنا لنخلد إلى الراحة ونترك الجد والعمل، وما من سبب من أسباب البطالة والعطالة يمكن أن تأخذ به الأمة أو أن يسري في صفوفها إلا نجد من يعيننا عليه من أعدائنا، فإذا كان الفراغ يحتاج إلى لعب فعندهم من الألعاب ما يكفي الإنسان ليضيع عمره كله، ولو أضيف إلى عمره عمر آخر لضاع معه.
فهناك للفراغ أفلام وتمثيليات، ولماذا يصنعون لنا هذا؟ إنما هو لتمرير هذه المفاهيم وتخليدها وتطبيقها عملياً؛ لتنصرف الأمة عن الجد والعمل، ولا يكون عندها مراجعة ولا وقفة مع الذات يخاطب فيها الإنسان نفسه، ويستحضر قصر عمره وإقباله على ربه كما قال القائل: أيا نفس ويحك جاء المشيب فماذا التصابي وماذا الغزل تولى شبابي كأن لم يكن وجاء مشيبي كأن لم يزل كأني بنفسي على غرة وخطب المنون بها قد نزل فيا ليت شعري ممن أكون وما قدر الله لي في الأزل فلا بد أن نقاوم مثل هذه المفاهيم الضعيفة التي تفت في العضد، وتضعف العزيمة، وتميل بالإنسان إلى الهامشية في الحياة وإلى الانسياق وراء مخططات الأعداء بصورة أو بأخرى.
وكان سفيان الثوري رحمة الله عليه كثيراً ما يتمثل بهذين البيتين فيقول: أطريف إن العيش كدر صفوه ذكر المنية والقبور الهول دنيا تداولها العباد ذميمة شيبت بأكره من نقيع الحنظل وذلك ليذكر نفسه أن الحياة قصيرة.
وابن القيم يبين لنا عظمة الوقت وعظمة الجريمة المرتكبة في تبذيره وتضييعه، حينما يقول: إضاعة القلب وإضاعة الوقت: إضاعة القلب من إيثار الدنيا على الآخرة، وإضاعة الوقت من طول الأمل، فاجتمع الفساد في اتباع الهوى وطول الأمل.
ولذلك يقول رحمة الله عليه: لذة كل أحد على حسب قدره وهمته وشرف نفسه، أي: على حسب همة الإنسان وقدره وشرفه يكون اهتمامه واستغلاله للوقت.
قال: فأشرف الناس نفساً وأعظمهم همة وأرفعهم قدراً من لذتهم في معرفة الله ومحبته والشوق إلى لقائه والتودد إلى ما يحبه ويرضاه.
ويقول ابن كثير عن الحافظ أبي الحجاج المزي وكان قد أصهر منه: وقذتني كلمة سمعتها من أبي الحجاج المزي الحافظ، سمعته يقول على هذه الأعواد -يعني: على أعواد المنبر-: إن امرأً ذهبت ساعة من عمره في غير ما خلق له لحري أن تطول عليه حسرته يوم القيامة.
خرج شريح يوماً فوجد قوماً من الحاكة يلعبون، فقال لهم: ما لكم تلعبون؟! قالوا: إنا تفرغنا، قال: أوبهذا أُمر الفارغ؟! اقرءوا قول الله جل وعلا: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ} [الشرح:7].
ولذلك لا بد للإنسان المسلم أن يعلم أنه ليس هناك وقت يسمى وقت فراغ، ولا وقت يسمى وقت خلو وبطالة من العمل، ولذلك قال ابن الجوزي: ينبغي للإنسان أن يعرف شرف زمانه وقدر وقته، فلا يضيع منه لحظة في غير قربة، وليس فقط لا يضيع بل يقدم الأفضل فالأفضل من القول والعمل، ولتكن نيته في الخير قائمة من غير فتور، ولربما يعجز عنه البدن من العمل.
فإذاً ليس فقط مجرد استغلال الوقت، بل لا بد أن يقدم الأفضل فالأفضل، فلا يقنع بما هو أقل إذا كان يستطيع ما هو أعلى وأشرف.
وقال الشاعر: إن الفراغ والشباب والجده مفسدة للمرء أي مفسده وكما قال أحدهم: الفراغ والصحة والمال ثالوث مدمر، ما لم يوجه التوجيه السليم.
وهذه المعاني كما أشرت تصحح ذلك المفهوم الخاطئ الذي يتلازم مع مقدم الصيف.