أنتقل إلى أمر ثانٍ، وهو معرفة حقارة الدنيا وحقيقتها، فما الذي ينافس ديننا؟ وما الذي يشغلنا عن قرآتنا؟ وما الذي يصرفنا عن هدي وسنة وسيرة رسولنا صلى الله عليه وسلم؟ أليس الصفق في الأسواق؟! أليس اللهو والبحث عن الشهوات؟! أليس التنافس على فتات الدنيا؟! قال عز وجل: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ} [الحديد:20] ثم ماذا من بعد ذلك كله؟ {ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا} [الحديد:20] ثم ما هو الأمر من بعد الدنيا كلها؟ آخرة وحساب وثواب أو عقاب، جنة أو نار، فهل تساوي هذه الدنيا أن تكون هي المقدمة وهي التي سكنت النفوس وتربعت على عروش القلوب؟ وهل يصح عندك -أيها المؤمن! يا من سمعت حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: (الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر) - أن تكون الدنيا أوكد همك وأعظم شغلك؟ ألم تستمع لحديث المستورد بن شداد رضي الله عنه عندما يخبره النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الدنيا كلها ومتاعها لو أن الله أعطاها كل من سألها من بر وفاجر لا تنقص من ملك الله إلا كما يغمس أحدكم المخيط في ماء البحر ثم يخرج به)؟ أليس الرسول صلى الله عليه وسلم قد ضرب المثل لأصحابه من نفسه وضربه في المواقف المتنوعة فقال: (ما لي وللدنيا؟ إنما أنا كراكب استظل تحت ظل شجرة ثم قام وتركها)؟! أليس هو الذي صلى فتعجل في صلاته صلى الله عليه وسلم، ثم سلم وانفتل وخرج مسرعاً وغاب شيئاً من الوقت، ورجع فرأى السؤال على وجوه أصحابه، فقال: (ذكرت شيئاً من تبر -أي: من ذهب- فخشيت أن يحبسني، فأنفقته في سبيل الله)؟! أليس هو الذي مات صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهودي؟! فهل هناك من هو أعظم أو أشرف من محمد صلى الله عليه وسلم.
وهو الذي لو أراد أن يدعو الله فيحيل له الصفا والمروة ذهباً لاستجاب الله له؟! أليس هو الذي قد جاء فيما صح في لحظات وفاته قوله: (بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى)؟! ألم يخير بين هذه الدنيا وزينتها واللحاق برفيقه الأعلى سبحانه وتعالى فاختار أن يكون إلى جوار خالقه ومولاه سبحانه وتعالى؟! فما بال الأمور تغيرت؟! وما بال الأحوال تبدلت؟! ألسنا نحتاج إلى مثل هذه المحاكمة النفسية والعقلية والقلبية لنتدبر أمورنا ونلتفت إلى أحوالنا؟! ولو أردنا أن نفيض لوجدنا الكثير، ولرأينا كيف بكى عمر رضي الله عنه في موقف من المواقف المؤثرة المعبرة، يوم دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم خير خلق الله قاطبة، فإذا به مضطجع على حصير ليس بينه وبينه شيء، فلما قام إذا الحصير له أثر في جنبه، فبكى عمر رضي الله عنه -أي: لأن هذا العظيم على هذه الحالة- فقال صلى الله عليه وسلم: (ما يبكيك يا عمر؟! قال: ملوك فارس والروم في النعيم المقيم والدنيا المزينة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم على حصير يؤثر في جنبه!)) -لقد رأى ذلك عمر فعز عليه مع عظمة المصطفى صلى الله عليه وسلم أن يكون هذا حاله- فقال له عليه الصلاة والسلام: (أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم) فهو المعلم الأعظم صلى الله عليه وسلم، ولم يكن شيء عنده عظيماً إلا أمر الله ودين الله ورسالة الله، وما وراء ذلك قيمته متأخرة، وحقيقته كما شبه ونبه وذكر أصحابه عندما مر بجدي ميت أسك -أي: مقطوع الأذن- فقال: (من يشتري هذا بدرهمين؟ فلم يتكلم أحد، فقال: من يشتريه بدرهم؟ فتكلم بعض الصحابة وقالوا: يا رسول الله! لو كان حياً لكان عيبه مانعاً من شرائه.
فقال: والله للدنيا على الله أهون من هذا على أحدكم) لقد صور النبي ذلك تصويراً بليغاً بلسان الحال ولسان المقال وبضرب المثال، وبعد ذلك كله احسب كم من أوقاتنا لدنيانا؟! وكم من فكرنا وشغلنا لدنيانا؟! وكم من همنا وغمنا وحزننا لدنيانا؟! وكم في مقابل ذلك لديننا وأمتنا ودعوتنا؟! أحسب أنها قسمة ليست عادلة، وأنها مرجوحة إلى ما لا ينبغي أن يكون راجحاً.