ولعل من أعظم المواقف في حياة مجتمع الصحابة وارتباطهم بكتاب الله عز وجل ذلك الموقف الذي كان لـ عمر رضي الله عنه.
في الصحيحين أن عمر قال لـ أبي بكر رضي الله عنه: (إني رأيت القتل قد استحر بالقراء يوم اليمامة، وإني أخشى أن يستحر بهم القتل في المواطن فيضيع كتاب الله عز وجل، وإني أرى أن تجمع القرآن).
هذا هو الاهتمام، وهذه هي المهمات، وهذه هي المشاغل، وهذا هو الذي كان يحرك العقول ويشغلها، فقال أبو بكر: (كيف أفعل شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم) كان عند القوم منهج، هو أن لا مخالفة لرسول الله عليه الصلاة والسلام، فما زال عمر يراجعه حتى شرح الله صدر أبي بكر للذي شرح له صدر عمر.
فانظر بعد ذلك للمهمات والشرف! فبعث أبو بكر إلى زيد بن ثابت رضي الله عنه وقال له: (إنك كنت تكتب القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانظر ما كان من القرآن فاجمعه) ومن الذي يحدثه؟ أبو بكر خليفة المسلمين ومعه عمر وزيره الأول، وأبو بكر وعمر هما صاحبا الحكم هنا، وهما صاحبا السابقة في الإسلام، وهما صاحبا الفضل، وهما صاحبا العلم، ومع ذلك لم يمنع هذا كله زيد بن ثابت أن يؤكد لنا المنهج الذي رُبي عليه الصحابة، وذلك أنه قال: (كيف تفعلا شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!) أي: وإن كنتما الحاكمين والسابقين والفاضلين والمقدمين فإن هناك ما هو أفضل وأكثر تقديماً، وهو نهج رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فما زالا به حتى شرح الله صدره للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر، فماذا قال بعد ذلك؟ قال: (فوالله! لو كلفني نقل جبل من مكانه لكان أهون عليَّ) أي أنه رأى أنها مهمة عظمى، وأنها قضية خطيرة؛ لأن فيها أنه يحفظ على الأمة كتاب الله عز وجل، فماذا صنع؟ وكيف نفذ؟ قال: (فجعلت أتتبع القرآن في الجلود واللحاف والعظام) وكان لا يقبل آية إلا بشاهدين أنها كتبت بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (وآخر سورة التوبة ما وجدتها إلا عند أبي خزيمة وحده) وبعض الناس يظنون أنه لم يكن أحد يحفظها إلا هو، وليس كذلك، إنما المقصود أنه لم يكن أحد شاهد كتابتها بأمر الرسول إلا هو، ومن عظمة وإعجاز ونبوة الرسول صلى الله عليه وسلم أنه كان قد جعل شهادة أبي خزيمة بشاهدة رجلين، فكان هذا مغنياً، فما وجدها إلا عنده، ثم وجد أن الرسول قد حكم بأن شهادته بشهادتين قبل أن يموت عليه الصلاة والسلام.
وكذلك ما جاء في شأن حذيفة لما كانوا في بلاد الأرمن في جهة المشرق يفتحون البلاد، ورأى الناس يختلفون في القراءة، خاصة الداخلين في دين الله حديثاً، فرجع إلى عثمان وقال: (أدرك أمة محمد قبل أن يختلفوا في كتابهم كما اختلفت اليهود والنصارى) فجمع عثمان رضي الله عنه الأمة على مصحف واحد، وفرق منه في الأمصار سبع أو تسع نسخ، فاجتمعت الأمة، وكانت كلها متوافرة جهودها منشغلة أفكارها بكتاب الله عز وجل.