وأما المحطة الثالثة فمحطة الجود والكرم، ولقد نال منها جعفر مبلغاً ورتباً لم ينلها كثيرٌ غيره من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ففي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة -وأبو هريرة كما نعلم كان من أهل الصفة، ومن فقراء المسلمين الذين كانوا ليس لهم مصدر عيش ولا قوت ولا طعام إلا ما يكون من الغنائم في الجهاد، وما يكون من إكرام المسلمين وهداياهم وصدقاتهم لهم- يقول أبو هريرة رضي الله عنه: (كان أخير الناس للمساكين جعفر بن أبي طالب، كان ينقلب بنا فيطعمنا في بيته، حتى إن كان ليخرج إلينا العكة التي ليس فيها شيء، فيشقها فنلعق ما فيها) أي أن العكة من العسل تكون ليس فيها شيء، فيشقها حتى يلعقوا بقاياها التي فيها من شدة كرمه.
وكان يعطي ما عنده، ولا يستبقي شيئاً قليلاً ولا كثيراً، ولذلك كثر مدح أبي هريرة على وجه الخصوص له؛ لأنه كان من الفقراء، ويعلم رضي الله عنه شدة الفقر والجوع.
وأبو هريرة كان متعلقاً بـ جعفر لهذا الكرم؛ لأنه كان يتفقد أهل الصفة دائماً، ويعطيهم ويطعمهم، قال أبو هريرة: (ما احتذى النعال، ولا ركب المطايا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من جعفر بن أبي طالب).
أخرجه الترمذي والحاكم وصححه، وذكر ابن حجر رحمه الله أنه: يعني بذلك في مجال الكرم؛ لأن هذا هو تقييد الحديث.
وقد ذكر ابن حجر في الإصابة أن هذا الحديث ساقه أبو هريرة بقوله: (ما احتذى النعال، ولا ركب المطايا، ولا وطئ التراب بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من جعفر بن أبي طالب) ورواه الترمذي والنسائي، وإسناده صحيح كما قال ابن حجر رضي الله عنه.
وهذه رواية ساقها الترمذي فيها طرافةٌ، وفيها ذكر لهذه المنقبة العظيمة لـ جعفر رضي الله عنه، روى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (إن كنت لأسأل الرجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن الآيات من القرآن أنا أعلم بها منه -يسأله عن معاني بعض الآيات، وهو أعلم بها، ولا يريد السؤال ولا يريد الجواب، وإنما يريد حديثاً حتى يقول له: تفضل وادخل البيت، فينال شيئاً من طعام- يقول: كنت أسأل بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن الآيات من القرآن وأنا أعلم بها منه، ما أشاء إلا ليطعمني شيئاً، فكنت إذا سألت جعفر بن أبي طالب لم يجبني حتى يذهب بي إلى منزله، فيقول لامرأته: يا أسماء! أطعميني شيئاً، فإذا أطعمينا أجابني).
أي أنه كان يعرف أن أبا هريرة إنما يريد الطعام أولاً.
ثم يقول أبو هريرة في تتمة الحديث: (وكان جعفر يحب المساكين، ويجلس إليهم، ويحدثهم ويحدثونه، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكنيه بأبي المساكين) وهذه كنيةٌ اشتهرت لـ جعفر رضي الله عنه، فهو أبو المساكين.
وفي رواية أبي هريرة أيضاً عند الترمذي قال: (كنا عند جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه أبي المساكين، فكنا إذا أتيناه قرب إلينا ما حضر، فأتيناه يوماً فلم يجد عنده شيئاً -يعني: يقربه لهم- فلما لم يجد عنده شيئاً أخرج جرةً من عسل فكسرها، فجعلنا نلعق منها)، فمن شدة كرمه رضي الله عنه أنه كان يكسر جراراً للعسل حتى يلعقوا ما فيها.
ثم كذلك وردت الرواية عند البخاري في هذا المعنى الذي ذكرناه، وذلك من وجوه الكرم والجود التي كانت معروفة عن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، وهذا يدل على بروز هذا الخلق عند جعفر رضي الله عنه؛ لأن جعفراً كان في الحبشة، وإسلام أبي هريرة إنما كان في العام السابع بعد خيبر، ونعلم أن جعفراً رضي الله عنه -كما سيأتي- شارك في مؤتة واستشهد فيها، أي أن عاماً واحداً هو الذي كان يجمع بين أبي هريرة وجعفر في المدينة، ومع ذلك كان كرم جعفر رضي الله عنه مشتهراً حتى لقب بأبي المساكين، حتى كان أبو هريرة -وهو من هو- يذكر أنه ما احتذى النعال، ولا ركب المطايا، ولا وطئ التراب بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم خير أو أفضل من جعفر بن أبي طالب، لما كان لأثر كرمه وجوده على أبي هريرة، وعلى غيره من فقراء الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.
وهذا يدلنا على هذه المنقبة العظيمة التي تدل على نفس سمحة سخية، وعلى رغبة في الأجر والمثوبة، وعلى رغبة في إدخال السرور إلى قلوب الضعفاء والمحتاجين.