مسائل مهمة في مواجهة جعفر بن أبي طالب لعمرو بن العاص رضي الله عنهما أمام النجاشي

وهنا مسائل كثيرة في هذه الحادثة يقصر مقامنا عن ذكرها، فالمسلمون كانوا أقليةً في بلدٍ غير إسلامي، وهم لحالهم ذلك كأنما يمثلون أوضاع الجاليات المسلمة في بلادٍ غير إسلامية كما هو حال كثيرٍ من المسلمين اليوم، فأول أمرٍ نلحظه هنا مشورة المسلمين فيما بينهم، ثم وحدة كلمتهم واجتماع أمرهم؛ إذ لم يتفرقوا ولم يختلفوا، بل أجمعوا أمرهم، ووحدوا كلمتهم، وانتدبوا المتحدث باسمهم، فليست هناك أقوالٌ ولا آراءٌ متعددة يظهرون بها لغير المسلمين.

ثم إن جعفراً رضي الله عنه أحسن المقالة، وأظن أن من يسمع قول جعفر لابد من أن يوافقه ويؤيده مباشرةً؛ فإنه بدأ بقوله: (أيها الملك) وهذا ليس فيه شيء من التعظيم لغير المسلم، بل فيه وصفٌ لحقيقته التي هو عليها، فهو ملك تلك البلاد، فليس في مثل هذا حرجٌ شرعيٌ، بل فيه تنزيل حسنٌ؛ لكي يكون هناك جسرٌ يمتد منه الحديث وتتحد به الأرضية لكي يقبل على ذلك القول ويسمع له ويصغي.

ووردت روايات أخرى في غير هذا السياق أنهم كانوا إذا دخلوا على النجاشي يركعون له، وأن عبد الله وعمرو بن العاص فعلا ذلك، فلما جاء جعفر لم يصنع مثل هذا، فقال له: لِمَ لا تركع كغيرك؟ قال: إنا لا نركع ولا نسجد إلا لله عز وجل.

فكان هذا الموقف أيضاً لفت نظرٍ إلى أن المساومة في أمرٍ شرعيٍ ثابتٍ أو عقديٍ أساسيٍ لا مجال فيه مطلقاً، لكن قوله: (أيها الملك) ليس فيه غضاضة ولا حرجٌ شرعيٌ بحال.

ثم بدأ يسرد له، فذكر له مساوئ الجاهلية، ذكرها بصيغةٍ موجزةٍ بليغة محكمة، وبينها وفصلها، فقال: (كنا نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف).

فأي صورةٍ هذه؟ وأي مجتمعٍ هذا؟ وأي أخلاقٍ هذه؟ إنها تلك التي تنفر منها كل نفس سوية، ويأباها كل عقلٍ راشد، تلك هي صور الجاهلية على حقيقتها المؤلمة، والكفر على صورته البشعة وأخلاقه الرذيلة الذميمة وأحواله الاجتماعية الطبقية العنصرية الظالمة الباغية.

ثم قال: (فبعث الله إلينا رسولاً منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه).

وهذا هو سر اختيار الصحابة وإجماعهم على جعفر؛ لأنه ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو أعرف به وألصق به من غيره من بقية الصحابة، فقوله فيه يكون عن بصيرةٍ وعلمٍ وخبرةٍ وقربٍ أكثر من غيره، ولذلك قال هذه المقالة.

ثم بين دعوة الإسلام، فبدأ بالتوحيد فقال: (فدعانا إلى الله عز وجل لنعبده ونوحده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من الحجارة والأوثان).

ثم ذكر الجانب الأخلاقي الإنساني في الإسلام؛ لأن هذه الجوانب الإنسانية قاسمٌ مشترك بين الأمم وبين الناس جميعاً من أصحاب الفطر السوية، والمسلمون يحسن بهم أن يظهروا هذه الجوانب لغير المسلمين؛ لأنها الجوانب التي تلفت العقول والأنظار، وتسلب أو تجبي أو تستميل النفوس والقلوب إلى حقائق الإسلام، ولذلك عرضها فقال: (أمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، وكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة)، ثم ذكر بعد ذلك الأمر بالتوحيد والصلاة والزكاة، وهذا تلخيصٌ حسنٌ لجوامع الإسلام وأسسه وقواعده دون أن يخوض في التفصيل والتفريع؛ لأنه في مقام عرضٍ إجماليٍ يبين حقيقة هذا الدين في كلياته وأصوله وقواعده، ويظهر محاسنه ومنافعه وفوائده.

ثم ذكر بعد ذلك ما يكشف حقيقة الكفر والشرك والجاهلية في معارضتها للأخلاق الفاضلة، ومضادتها لحقوق الإنسان، ومنعها لحرية الرأي والتعبير والاعتقاد، فقال: (فلما رأى قومنا ذلك عذبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان، وأن نستحل ما كنا نستحل) أي أنهم شقوا عليهم وعذبوهم وآذوهم، فظهر حينئذٍ أن هذا ظلم وبغي، وكل صاحب نفسٍ حرةٍ وفطرة سوية يكون مع هؤلاء المظلومين ضد المعتدين، بغض النظر عن الدين والمعتقد، وهذا نراه اليوم أيضاً لدى بعض الأفراد والجماعات والمجموعات والمنظمات من غير المسلمين، حيث قد يكون عندهم تشبثٌ حقيقي بحقوق الإنسان، ورغبةٌ في رد الظلم والعدوان من أي أحدٍ كان، ولذا نرى منهم مواقف عجيبة، ليست منطلقة من منطلقات الإسلام، لكنها منطلقة من منطلقات الإنسان، ولذلك نرى من يسمونهم نشطاء السلام يدافعون عن إخواننا في فلسطين، ويرفعون قضيتهم، وربما قتل بعضهم كما هو معلومٌ ومعروف، وهم في ذلك يرون أنهم يدافعون عن حقٍ وعدل، ويمنعون ظلماً وجوراً، وينصرون إنساناً مضطهداً دون أن ينظروا إلى دينه وعقيدته، فبعض المعاني الإنسانية المشتركة راعاها جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه في دعوته بذكاءٍ وفطنة، ثم ختمها بأحسن ختامٍ عندما أثنى على النجاشي وبلاده بما هو فيها من غير زيادة، والمسلم الحق من يذكر الحق والواقع بإنصافٍ وعدل، حتى وإن كان عند غير المسلم، فقال: لما حصل ذلك خرجنا إلى بلدك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك.

وهذا يستدعي من النجاشي حميته وقوته وعطفه، كيف يلتجئ إليَّ أناس فأخذلهم؟ وكيف يرغبون في جواري فأطردهم؟ وكيف ينشدون عدلي فأظلمهم؟ ولذلك أحسن جعفر رضي الله عنه هذا العرض إحساناً بالغاً فائقاً، وأثنى على النجاشي وبلاده في مجمل أوضاعها بما هو حقٌ، وليس في هذا حرجٌ شرعي، ليس من حرجٍ أن نقول عن نظام بعض تلك البلاد أو بعض قوانينها أو بعض أحوالها ما هو عدلٌ وحق وما فيه مصلحة ومنفعة، وإن لم يكن قائماً على أساسٍ عقدي صحيح، وإن لم يكن منطلقاً من الإسلام وعقائده ومبادئه، ولذلك قال له هذا القول.

ثم ختم بقوله: (ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك) فلما قال هذه المقالة الجامعة الوافية الذكية، قال النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله عز وجل شيء؟ وهنا جاهزية الداعية المسلم الذي لا يتلكأ، فقال جعفر: نعم، فقرأ عليه صدراً من سورة مريم، واختيار القراءة أيضاً موفق؛ فإن صدر سورة مريم فيه قصة زكريا ويحيى وعيسى عليهم السلام جميعاً، وفيه ذكر أمورٍ يعرف جعفر أن النجاشي يعرفها من كتابه ودينه، فقرأها فبكى -والله- النجاشي حتى أخضل لحيته، وبكت أساقفته حتى بلوا مصاحفهم.

ثم قال النجاشي: إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة.

انطلقا، فوالله لا أسلمهم إليكما أبداً.

فردهما، ولكن هل استسلم عمرو بن العاص، وهو داهية العرب كما نعلم؟ فلما خرجا من عنده قال عمرو بن العاص: والله لأتينه غداً أعيبهم عنده بما استأصل به خضراءهم.

أي: سوف آتي غداً في جولةٍ أخرى، وأذكر عن هؤلاء المسلمين قضيةً سوف تغير موقف النجاشي عليهم.

فأي شيءٍ سيذكر؟ سيذكر أمراً متعلقاً بالعقيدة والدين، لنعلم أن المحرك الأساسي والجوهري في اتخاذ المواقف إنما هو العقيدة والمبدأ قبل المصلحة والمنفعة.

فقال له عبد الله بن أبي ربيعة -وكان أكبر الرجلين كما تقول رواية أم سلمة -: لا تفعل؛ فإن لهم أرحاماً.

فقال: والله لأخبرنه أنهم يزعمون في عيسى بن مريم أنه عبد! وما لـ عمرو بن العاص وهو وثني مشرك ولعيسى بن مريم وللمسيحية والنصرانية؟! إنما يريد الفتنة، وهذا هو الذي يستغله -أيضاً- أعداء الإسلام من اليهود وغيرهم، فإنهم لا يريدون حقاً وعدلاً، وإنما يريدون أن يطعنوا المسلمين ويسيئوا إليهم ويؤلبوا عليهم.

فغدا عليه من الغد، فقال: أيها الملك! إنهم يقولون في عيسى بن مريم قولاً عظيماً.

ونلاحظ أنه لم يقل ما يقولون، إنما أراد أن يجعل القضية في حس النجاشي ضخمةً وعظيمة، حتى إذا سمع النجاشي القول كان غضبه في غاية العظمة والشدة، فأرسل إليهم ليسمع منهم، وهذا من عدل النجاشي؛ فإنه لم يسمع من طرفٍ في كلتا الحالتين.

تقول أم سلمة ولم ينزل بنا مثلها.

أن هذه معضلة، فالقوم في كتبهم تحريف، ونعرف أنهم يقولون: إن عيسى هو ابن الله.

أو: عيسى هو الله.

ونحن قطعاً ويقيناً في عقيدتنا وديننا أنه عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه.

قالت: فقال بعضهم: ما تقولون في عيسى إذا سألكم عنه؟ قالوا: نقول فيه ما قال الله عز وجل، وما جاء به نبينا صلى الله عليه وسلم، وكائن في ذلك ما كان.

فلما دخلوا عليه قال: ما تقولون في عيسى؟ قال له جعفر رضي الله عنه: (نقول فيه الذي جاء به نبينا عليه الصلاة والسلام: هو عبد الله وروحه ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول).

وهذا الكلام مختصرٌ موجز، لكنه دقيق وحكيم؛ فإنه قال: نقول فيه ما جاء به نبينا صلى الله عليه وسلم.

فليس القول من عندنا، وليس اجتهاداً، وإنما هو دينٌ ووحيٌ، ثم قال: (عبد الله)، وذلك ينفي أنه ابن الله، وينفي أنه الله عز وجل -تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً-، لكنه أضاف المعنى المعجز الذي نؤمن به، وهو (وروحه) أي: التي قذفها في مريم عليها السلام، (ورسوله) فهو نبي مرسل كرسول الله صلى الله عليه وسلم.

ثم قال: (وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول) أيضاً ليبرئ مريم عليها السلام مما يقذفها به بعض اليهود والمحرفين منهم على وجه الخصوص، فهو جمع في ذلك محاسن عقيدة الإسلام في هذه المسألة المهمة، فلا هو ابن الله، ولا هو الله، ولا هو بشرٌ كسائر البشر، بل هو كلمةٌ وروح ألقاها الله إلى مريم، وليست مريم عليها السلام فيها شيء من شبهة أو من قذفٍ أو غير ذلك.

وهنا استطراد يسير نذكره لبعض علماء الإسلام، وهو أبو بكر الباقلاني، حيث جاءه بعض النصارى، وأرادوا أن يثيروا بعض الشبه، فقالوا له: إن زوجة نبيكم قد وقع لها ما وقع -يعنون بذلك حادثة الإفك، ويرمون بذلك عائشة

طور بواسطة نورين ميديا © 2015