كان عمر رضي الله عنه يأخذ بالإسلام والتقوى، فعم الخير والنوال، وأنقل لكم صورة تبين الرخاء الذي عم بلاد الإسلام في عهد عمر: فهذه أسس السيرة والتاريخ تجمع على هذه المعلومات وهي: أنه ما كان مولود يولد في الإسلام إلا وله من بيت مال المسلمين مائة درهم، فإذا ترعرع -أي: نشأ- وكبر قليلاً صار له مائتا درهم، وكان عمر في أول أمره لا يكتب ذلك للمولود حتى يفطم؛ لأنه لا يحتاج إلى طعام ولا عطاء؛ لأنه يرضع من أمه، فمر مرة فرأى امرأة ومعها غلام يبكي، فقال: (يا أمة اللهّ! انتبهي لغلامك)، ثم بعد فترة رآه يبكي فزجرها، ثم رآها بعد ذلك، فقال: (مالك يا أمة الله؟! قالت: إني أراغمه على الفطام، قال: ولم تفطمينه قبل وقته؟ قالت: إن عمر لا يفرض إلا لمن فطم)، أي: أنها تريد عطاء عمر لأنها في حاجة، فبكى عمر رضي الله عنه حتى غلبه النشيج، ثم قال: (ألا كل مولود في الإسلام له عطاء من بيت مال المسلمين)، أي: أن كل مولود بلا استثناء يعطى من بيت المال بلا منة، وبلا أن يكون هناك داعٍ إلى طلب يمنعه منه الحياء، كل ذلك كان في عهد عمر رضي الله عنه، ثم كان يأخذ كل من كان يحتاج من اللقطاء أو غيرهم؛ حيث جعل لهم نفقة من بيت مال المسلمين، ثم إنه جعل العطاء عاماً في الأمة كلها مما يأتي من الخراج والأرض الموقوفة والغنائم وغيرها، فجعل لأهل بدر ألفين ألفين، وخص الحسن والحسين فجعل لهما خمسة آلاف إلحاقاً بأبيهما علي رضي الله عنه لقرابته من النبي صلى الله عليه وسلم، وأعطى بعد ذلك الصحابة السابقين ثلاثة آلاف، وأعطى أسامة بن زيد أربعة آلاف، فجاء عبد الله بن عمر، وقال لـ عمر: (أعطيتنا ثلاثة آلاف، وأعطيت أسامة أربعة آلاف، وليس أبوه في الإسلام مثلك؟ فقال عمر رضي الله عنه: فإن أبوه كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبيك، وإنه كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك)، وهكذا كان يحكم بقدر البلاء في الإسلام والقرابة والصلة بالنبي صلى الله عليه وسلم، حتى فرض لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم لكل واحدة منهن اثني عشر ألف درهم، فجاء عطاء عمر إلى زينب أم المؤمنين رضي الله عنها، وقالوا لها: هذا من عمر، فقالت: (رحم الله عمر قد كانت غيري من أخواتي أقدر على قسمه مني)، أي: أنها ظنت أن عمر أعطاها إياه لتفرقه على المحتاجين والفقراء، فقالوا: (بل هو لك، فاستترت منه بثوب، وقالت: أفرغوه، فلما أفرغوه قالت: استروه بثوب، فلما ستروه بثوب، قالت لمولاة عندها: خذي منه قدر يديك، واذهبي به إلى بيت آل فلان، ثم جاءت المرة الأخرى فقالت لها: خذي منه كذا خذي منه كذا، فقالت لها: يا أم المؤمنين! والله! إن لنا في هذا لحقاً، قالت: ما تحت الثوب فهو لكم، -أي: ما بقي- قالت: فكشفنا عنه فإذا هو خمسة وثمانون درهماً، وفرقت كل ذلك، ثم قالت رضي الله عنها: اللهم لا يدركني بعد عامي هذا عطاء لـ عمر)، فماتت قبل أن يحول الحول رضي الله عنها وأرضاها، وكان عمر يعطي كل أحد، ويبلغ عطاؤه كل إنسان، حتى إنه مر مرة بيهودي قد أسن وبلغ به الكبر عتياً، وهو في حالة رثة، فقال له عمر: (من أي أهل الكتاب أنت؟ قال: يهودي، قال: فما لك هكذا؟ قال: أشكو الجزية والحاجة والتعب، فأخذ عمر رضي الله عنه بيده إلى بيت المال وأعطاه، ثم قال: انظروا هذا وأضرابه فأعطوهم من بيت مال المسلمين؛ والله! ما أنصفناه في شيبته وقد أخذنا منه في شبيبته)، وهكذا كان عطاء عمر يصل إلى كل مكان، حتى جاء مرة رجل من أهل العراق اسمه خالد بن عرفطة العذري، فقال عمر: (كيف حال الناس؟) وانظروا إلى حال الناس في عهد عمر، فقال هذا الرجل: (يا أمير المؤمنين! إني تركت الناس يسألون الله أن يزيد في عمرك من أعمارهم، ما أحد وطئ القادسية -أي: شارك فيها- إلا وعطاؤه ألفان أو خمسة عشر مائة وإنه ما من مولود يولد إلا لحق في مائة -يعني: له مائة- وجريبين -أي: كيسين من طعام- كل شهر، ذكراً كان أم أنثى، وما يبلغ لنا ذكر إلا لحق على خمسمائة أو ستمائة) هذا لرجل يصف هذه الحال، ثم يستكثر هذا العطاء لأن هذا العطاء أكثر من حاجة ذلك الصغير أو ذلك البالغ أو نحو هذا، فقال: (فإذا خرج هذا بأهل البيت منهم من يأكل الطعام ومنهم من لا يأكل -أي: منهم الصغير- فما ظنك به؟ إنه لينفقه فيما ينبغي!) رأى هذا أن في هذا زيادة، فأراد من عمر أن يقلل في عطاء الناس، فقال عمر رضي الله عنه: (الله المستعان! إنما هو حقهم أعطوه، وأنا أسعد بأدائه إليهم منهم بأخذه، فلا تحمدني عليه؛ فإنه لو كان من مال للخطاب ما أعطيتموه)، ثم بين أسساً في الاستثمار والتوسع والتخطيط للمستقبل فقال: (ولكني قد علمت أن فيه فضلاً -أي: زيادة- ولا ينبغي أن أحبسه عنهم؛ فلو أنه إذا خرج عطاء أحد هؤلاء ابتاع منه غنماً فجعله بثوابه، فإذا خرج عطاؤه مرة ثانية، ابتاع الرأس والرأسين فجعله فيها؛ فإنه أنفع له، وإني أخاف عليكم بعدي: أن يليكم ولاة لا يعطونكم عطاءً، وإني أنصح لك كما أنصح لأقصى رجل في ثغور المسلمين)، فكان رضي الله عنه يريد منهم أن يستثمروا الأموال، وألا يكونوا معتمدين على العطاء، وهكذا كتب عمر إلى عماله: (أن أعط الناس على تعلم القرآن)، وكانت الجوائز والمنح للسابقين في الإسلام، ولمن يعملون بالأعمال الإسلامية، والتشجيع والمكافئات في هذه الميادين لا في غيرها، فكتب إلى عماله: (أن أعطوا الناس على تعلم القرآن)، فكتب إليه هذا الوالي -وفي بعض الروايات أنه سعد -: (إن الناس قد أقبل بعضهم على تعلم القرآن لا يريد إلا العطاء)، أي: أصبحوا يتعلمون لأجل أن يأخذوا هذه المكافئات من عمر، وهو يريد أن عمر يمنعها، فقال عمر: (أعط على القرآن، وأعط على المروءة والصحبة)، أي: من قصر في تعلم القرآن، ولكنه سبق في ميدان آخر فأعط هؤلاء، وأعط هؤلاء، بل قد أمر عمر رضي الله عنه لامرأة بخادم ونفقته؛ فقد روي أنه رأى امرأة تحمل قربة ماء قد ناءت بها، فسألها عن حالها، فقالت: إني أشكو التعب وليس لي خادم يخدمني، فحمل عنها عمر رضي الله عنه، ثم قال لها: (ائت أمير المؤمنين؛ فلعله أن يخدمك خادماً، فقالت: إني لا أصل إليه، قال: بل تأتينه فتجدينه)، فجاءت فإذا هو عمر رضي الله عنه، فأمر لها بخادم ونفقة.
لقد اتسع العطاء وعم الرخاء في عهد عمر، حتى إنه كان يكتب مع الجيوش الغازية بتسمية الأطباء والقضاة والمرشدين يعينهم ويصرف عليهم من بيت مال المسلمين، وهذا كله من فضل الله عز وجل، ثم من فضل هذا الدين العظيم، وكذلك من الالتزام العظيم من عمر بمنهج الله عز وجل وبما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبإقرار الحق، وإقامة العدل، فكانت هذه الصورة المشرقة، ولم يدع عمر رضي الله عنه لأجل التنمية إلى منع النسل أو تحديده، كما يزعم الزاعمون، ولم يدع إلى أية حلول من هذه الحلول العرجاء العوجاء، وإنما كان عمر يؤسس الأسس المنهجية، ثم يتحرك في صورة عملية، ثم يجعل الأمة كلها على قلب رجل واحد، فكان هذا الخير الذي عم ديار الإسلام والمسلمين، ويتكرر ذلك في كل زمان ومكان بحسب قرب الناس من دين الله والتزامهم شرع الله عز وجل.
فالله نسأل أن يلزمنا دينه، وأن يلزمنا شرعه، وأن يقيمنا على هدي رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن يلحقنا بآثار أصحابه رضوان الله عليهم أجمعين.