أما التنمية العمرية فقد ساس عمر الناس وقادهم وسعى في صلاحهم، وجهد في خيرهم وعطائهم ورخائهم؛ لتبرز لنا صورة مشرقة من صور التطبيق الإسلامي الأمثل لإدارة شئون الحياة، وللتعامل مع مستجدات الأمور، ونحن اليوم نسمع حديث التنمية والرخاء يتردد صباح مساء، وكثير من حديث الناس والساسة وأهل التحليلات والأخبار إنما يدور حول هذه القضايا، وقد مر بنا قريباً مؤتمر السكان والتنمية، وغير ذلك مما هو حديث الناس اليوم عن الدول المتقدمة والدول المتخلفة، وعن الفقر، وعن مستوى المعيشة، وغير ذلك، ويُنسب كثير من النقص والقصور زوراً وبهتاناً واعتداءً وافتراءً إلى دين الإسلام! والإسلام من ذلك براء.
فهذه صورة الحياة الإسلامية والرفاهية الإسلامية في عهد عمر رضي الله عنه تبرز لنا الجانب المهم الذي ينبغي أن يكون يقيناً راسخاً عند كل مؤمن ومسلم، وهو أن الحياة في ظلال القرآن وفي هدي النبي صلى الله عليه وسلم وعلى منهج الإسلام هي الحياة الهنيئة الوضيئة في هذه الحياة الدنيا، وهي التي تؤهل -بإذن الله عز وجل- إلى رضوان الله ورحمته في الحياة الأخرى، وأما غير ذلك فهو الشقاء وإن عظمت الأموال، وهو النكد والتعاسة والبلاء وإن اتسعت أسباب الرزق وتنوعت سبل التقدم، كما قال جل وعلا: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124].
إن عمر رضي الله عنه كان قد جعل للتنمية أسساً في طبيعة الفكر والحكم والمبادئ التي ساس بها أمته، فجعل المساواة والعدالة والحرية والشورى أسساً تنطلق من خلالها كل الإبداعات، وتتفجر عبرها سائر الطاقات، ويحصل من خلالها التنافس في مجال الخيرات، ولذلك جعل عمر هذه القوائم دعائم وأسساً لم يتخل عنها في إعلانه، ولا في تطبيقه، ولا في ممارسته، فجعل ذلك أمراً بيناً واضحاً، فهو في المساواة يعلن للأمة في ملأ منها قائلاً: (والله! الذي لا إله إلا هو ما أحد إلا وله في هذا المال حق أعطيه أو منعه، وما أحد أحق به من أحد، وما أنا فيه إلا كأحدكم، ولكنا على منازلنا من كتاب الله، وقسمنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم)، أي: التفريق إنما هو في العطاء والبذل للإسلام، قال عمر: (الرجل وبلاؤه في الإسلام، والرجل وقدمه في الإسلام، والرجل وضناؤه في الإسلام، والرجل وحاجته في الإسلام، والله! لئن بقيت ليأتين الراعي بجبل صنعاء حظه من المال وهو مكانه قبل أن يحمر وجهه)، أي: في طلبه واستجداءً لغيره، قالها عمر بلسانه ثم طبقها بفعله، كما سنتحدث في بعض ومضات من تنمية عمر رضي الله عنه.
لقد كان عمر رضي الله عنه يطبق المساواة عملياً، فحينما جاءت بعض البرد -وهي الثياب الطيبة الرخية من بلاد اليمن- وزع عمر على الصحابة وعلى المسلمين، وأخذ لنفسه مثلهم، ثم لما رقي المنبر قال: (اسمعوا وأطيعوا)، قال: سلمان: (لا سمع ولا طاعة)، قال: (ما بك يا أبا عبد الله، قال: أعطيتنا برداً برداً وأخذت بردين، فقال عمر: قم يا عبد الله بن عمر! من أين هذه البردة؟ قال: إنها لي، وقد أعطيتها لأبي، قال عمر: لم يكن لي ثوب) وكان عمر طويلاً جسيماً، فأخذ ثوب ابنه وجعله معه، فقال سلمان: (أما الآن فقل نسمع ونطع بإذن الله عز وجل).