كان عمر يأخذ مبدأ الإشراف والرقابة والمتابعة، وأذكر نموذجاً واحداً من نماذج شتى يضيق المقام عن حصرها، هذا أحد النماذج التي كان عمر يفتح لها صدره وبابه ليسمع شكاية الناس في الولاة، ثم يأتي بالوالي والرعية في المجلس بين يديه، وينظر أمير المؤمنين في القضية: سعيد بن عامر الجمحي رضي الله عنه كان والياً لـ عمر على حمص، فجاء إليه أهل حمص، فسألهم عن أميرهم، فشكوا إليه أربع خصال، فاستدعاه عمر من حينه إلى المدينة إلى مقر الخلافة؛ ليكون في مجلس القضاء الفصل، والحكم بالعدل بين يدي عمر رضي الله عنه، فجيء بـ سعيد وجيء ببعض أهل حمص الذين قالوا هذه المقالة، وتقدموا بشكاواهم، وكان سعيد بن عامر يدافع ويرد على ذلك بين يدي عمر، وقبل أن يقدم على عمر قال: (اللهم لا تخيب فراستي فيه)، فقد كان عمر يحزن أشد الحزن إذا وجد في ولاته تغيراً؛ لأنه كان ينتقيهم ويختارهم، ويتفرس فيهم، وينظر فيهم بفراسة المؤمن التي آتاه الله إياها، فكان يرى سعيد بن عامر مثلاً من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن يحب أن يكون فيه نقص أو تغير، لكنه كان يرى العدل، وكان يرى ضرورة ضبط الأمور في هذه المسئولية، فلما جاء أهل حمص قال لهم: ما شكايتكم؟ قالوا: كان لا يخرج إلينا حتى يرتفع النهار، فالتفت عمر إلى سعيد: ما تقول؟ فيقول: أما إني ما كنت أحب أن أقول، ولكنه ليس لأهلي خادم، فإذا أصبح الصباح عجنت عجيني، وخبزت خبزي، فلا أخرج لهم إلا وقد مضى من النهار شيء، فحمد الله عمر رضي الله عنه، ثم قال لأهل حمص: وما شكايتكم؟ قال: لا يرد على أحد بالليل، فالتفت إليه عمر، فقال: قد تركت النهار لهم، وتركت الليل لربي، فحمد الله عمر رضي الله عنه، ثم قالوا له: إنه يغيب عنا يوماً في الشهر فلا يظهر إلا آخر النهار، فقال: أما إني كنت لا أحب أن أقول، ثم قال: إنه ليس لي إلا ثوب واحد، فإذا اتسخ غسلته، وانتظرته؛ حتى يجف، فأخرج إليهم متأخراً، قالوا: وكان يغشى عليه المرة بعد المرة، أي: يصاب بإغماء، قال: أما إني ما كنت أريد أن أقول، ولكني شهدت مصرع خبيب بن عدي رضي الله عنه في مكة يوم صلبه كفار قريش وقالوا له: أتحب أن محمداً صلى الله عليه وسلم مكانك؟ فقال: ما أحب أن يشاك محمد صلى الله عليه وسلم بشوكة وأنا آمن في أهلي، ثم قتل، قال: ففي نفسي أني لم أكن نصرته يومئذٍ، وكنت من الكافرين، فكلما ذكرت موقفه أُغمي علي، فحمد الله عمر على أن هذا النموذج من ولاته يمثل سياسته ويمثل نظرته للمسئولية، ثم بعث به إلى حمص مرة أخرى، وبعث في إثره بأربعة آلاف درهم، كتب له أن ينفقها على نفسه وأهله؛ لأنه قد بلغت حاله من الزهد والفقر مبلغاً عظيماً، فدخل سعيد بن عامر على أهله -وقد كان في ذلك الوقت يتوقع مجيء جيش من جيوش الكفر- وهو مهموم مغموم، فقالت له زوجته: أي شيء يا سعيد! أجاء العدو؟ قال: لا، بل أعظم، قالت: فاذكر من عندك، قال: فإني لا آمنكم عليه، قالت: خذ الأمان لنفسك، قال: قد بعث عمر إلي بأربعة آلاف درهم، وأمرني أن أنفقها على نفسي وأهلي، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن فقراء المهاجرين يسبقون أغنياءهم إلى الجنة بأربعين خريفاً)، وأخشى ألا أكون من السابقين، قالت: قد أمنتك، فدونك المال، فجعل يربطه خرقاً خرقاً ويوزعه، حتى ما انتهى يومه إلا وقد وزعه كله.
فهذا نموذج من نماذج ولاة عمر رضي الله عنه، وهذه ثمرة ذلك النظر الثاقب في الرجال، وتلك المراقبة الدقيقة في متابعة الأعمال، فرضي الله عن عمر على ما قدم لأمة الإسلام والمسلمين.
ونسأل الله عز وجل أن يجدد فينا سيرة عمر وصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أجمعين.