ومع هذه القوة في هذه الجوانب كانت لـ عمر قوة في جانب من أهم الجوانب، ذلك أنه كان قوياً في الصراحة في الحق، وقوياً مع ذلك في الالتزام والسمع والطاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي موقف الحديبية لما قال له النبي ما قال، سكت عمر، وسكن غضبه، وهدأت حميته، وعلم ما كان من نهج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال -كما في بعض الروايات-: (فلم أزل أكفر وأستغفر من الذي قلت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية).
ثم انظر أيضاً إلى صراحته التي قد يظهر لأول الأمر أنها لا تتفق مع قوته، فيوم جاء النبي صلى الله عليه وسلم في عمرة الحديبية، وأرادت قريش أن ترده، أراد أن يبعث إلى قريش مبعوثاً ليخبرها أن النبي وصحبه لم يأتوا إلا معتمرين، وللبيت معظمين، وما جاءوا محاربين مقاتلين، فدعا الرسول عليه الصلاة والسلام عمر ليبعثه إلى قريش، وهو المؤمن العظيم في إيمانه، القوي الشديد في قوته، لكنه كان أيضاً قوياً في الصراحة، وقوياً في رعاية المصلحة الإسلامية، ولم تكن قوته تهوراً، ولم تكن حميته طيشاً واندفاعاً، فقال للنبي الكريم صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! إني أخاف قريشاً على نفسي، وليس بمكة من بني عدي بن كعب -أي: قومه- أحد يمنعني، وقد عرفت قريش عداوتي إياها وغلظتي عليها، ولكني أدلك على رجل أعز بها مني، عثمان بن عفان رضي الله عنه، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بمشورة عمر رضي الله عنه، وما كان في ذلك الموقف جبن ولا خوف، بل كان فيه قوة وشجاعة في الحق، ونظر إلى رعاية المصلحة الإسلامية، ولو كان النبي صلى الله عليه وسلم أمره لامتثل؛ فإنه كان وقافاً عند حدود الله، قوياً في التزام أمر الله سبحانه وتعالى.
وفي يوم الحديبية أيضاً بعد أن وقف عمر موقفه، والتزم أمر نبيه صلى الله عليه وسلم، جاء أبو جندل وهو من المستضعفين المسلمين المحبوسين في مكة، جاء وهو يرسف في قيوده، وأبوه هو الذي أمضى العقد ممثلاً لقريش، جاء يريد أن يلتحق بالمسلمين، وتصوروا هذا الموقف: هذا مسلم مستضعف يعذب لأجل دينه، جاء راكباً مقيداً بقيوده، وهو يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإخوانه المسلمين رأي العين، يريد أن ينضم إليهم، وأن يلحق بهم، وأن يكون معهم، ولكن العهد والميثاق قد أُبرم، والمسلمون عند شروطهم، ولا أحد أوفى بعهوده منهم، فماذا فعل عمر رضي الله عنه؟ لم يخرق الالتزام، ولم تأخذه شدته وقوته، ولكن كانت قوته فيها التزام، وكانت شدته تظهر على أعداء الإسلام، فقال عمر رضي الله عنه: (فماشيت أبا جندل، وكنت أقول له: اصبر يا أبا جندل! اصبر يا أبا جندل!) هذا جانب الالتزام وقوته فيه، ثم قال له: (إنما هم المشركون، وإنما دم أحدهم مثل دم الكلب)، وجعل يدني قائم السيف منه، ماذا يريد عمر؟ قال: (وكنت أريد أن يأخذ السيف فيضرب به عنق أبيه)، أي: بدون أن يكون هناك إخلال بالعهد؛ لأن أبا جندل لم يكن ممن أبرم العهد ودخل فيه، قال: (فما زلت أقول له: إنهم المشركون، وإن دم أحدهم مثل دم الكلب، وأدني منه قائم السيف لعله أن يضرب به عنق أبيه، فضن الرجل بأبيه)، ومضت القضية، وهكذا كان موقف عمر رضي الله عنه مع قوته، فهو قوي في التزام أمر الله وفي التزام أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما كانت قوته طيشاً ولا تهوراً رضي الله عنه وأرضاه، وهكذا ينبغي أن تكون لنا القوة في هذه الجوانب.
فأسأل الله عز وجل أن يرزقنا القوة في دين الله، والقوة على أعداء الله، والقوة في نصرة عباد الله.