لما أراد عمر الهجرة هو وبعض الصحابة قص علينا خبره؛ فقال: اتعدت -أي: تواعدت- أنا وعياش بن أبي ربيعة وهشام بن العاص بن وائل السهمي عند أضاة بني غفار، وكان موعدهم أن من أتى منهم مضى، ومن حُبس تُرك، قال: فجاءني عياش وحبس عنا هشام، ثم مضى هو وعياش بن أبي ربيعة مهاجرين إلى المدينة النبوية قبل هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبلغا قباء، ونزلا في بني عوف، فجاء أبو جهل وأخوه الحارث، وقد كان أبو جهل أخاً لـ عياش من أمه، وأدركا عمر وعياشاً وهما في قباء، فجاء أبو جهل وقد كان يمثل موقف القوة وصورتها في صف الكافرين، كما كان عمر يجسد صورة من صور القوة في صف المسلمين، فجاء أبو جهل إلى أخيه عياش وهو يريد أن يثنيه عن عزمه، ويريد أن يثبطه عن هجرته، فجاء إليه وهو يقول: إن أمك قد نذرت ألا يظلها سقف، وألا يمس رأسها دهن حتى تراك.
وهذا أسلوب من أساليب الضغط النفسي، وأسلوب من أساليب التأثير العاطفي، وفي بعض الروايات: فما زال أبو جهل يفتل في الذروة والغارب، أي: ما زال يدور ويحور ويناقش ويعارض حتى كأن عياشاً لان له، فالتفت عياش إلى رفيق هجرته عمر يريد رأيه ومشورته، فانظر إلى قوة عمر في شدة حيطته وحذره، فإذا بـ عمر يقول لـ عياش رضي الله عنه: والله ما أرادا إلا دينك.
أي: أي شيء يريدون؟ أهم أحن عليك من أمك؟ أهم ينظرون إلى هذه المعاني الإنسانية؟ أهم يلتفتون إلى هذه الأمور العاطفية؟ وقد كان عمر أبعد في نظره وأعمق في فكره وأقوى في قوته من عياش رضي الله عنه، فهتف بها واضحة قوية: والله ما أرادا إلا دينك! ثم قال: فاحذرهما، ولا تذهب معهما، فوالله لو آذى أمك القمل لادهنت وامتشطت، ولو اشتد عليها حر مكة لاستظلت.
أي: دع عنك مثل هذه الأقاويل المثبطة، ودع عنك مثل هذه الخدعة الهامشية التافهة، إذ كان عمر أعلى وأقوى من هذا كله؛ فقال هذه المقالة لـ عياش، ولكن عياشاً قد تأثر بذلك رضي الله عنه، فقال: ولي مال في مكة آخذه فأعين به المسلمين، لكن عمر ما يزال في موقفه من الحيطة والحذر وقوته في حماية الدين والحياطة له، فقال: إنك تعلم أني لمن أكثر قريش مالاً، فخذ شطر مالي ولا تذهب معهما، فرأى إلا أن يذهب، فقال عمر: أما وقد عزمت أن تذهب فخذ ناقتي هذه؛ فإنها ناقة نجيبة ذلول فالزم ظهرها، فإن رابك من القوم ريب فانج عليها.
انظر إلى هذه القوة التي تستمر في هذه المواقف ولا تخور، ولا تنثني، ولا تتغير، بل كان يستمر في الحيطة إلى آخر الأمر، وقد كان من الأمر ما قال عمر، فلما كانوا في بعض الطريق قال أبو جهل: قد استوحشت واستصعبت جملي، فهلا أركبتني ناقتك يا عياش؟! فأناخ عياش، وما عنده حيطة عمر وقوته وشدته، فلما أناخ واستبدل الناقة قيداه وكتفاه، ثم ذهبا به إلى مكة أسيراً يضربانه، وفي بعض الروايات: أنه جلده كل واحد منهما مائة جلدة، وكان أبو جهل يقول: هكذا افعلوا بسفهائكم كما نفعل بسفهائنا.
فـ عمر رضي الله عنه كانت قوته واضحة في الحيطة والحذر من الكافرين؛ لا يأمنهم، ولا يغتر بقولهم، ولا ينخدع بمعسول كلامهم.