الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين! أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله؛ فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وإن من أعظم التقوى العمل والاجتهاد في نصرة دين الله عز وجل، وتتبع آثار السلف الصالح رضوان الله عليهم أجمعين.
أيها الإخوة الكرام! إنما أردت في هذا المقام أن أهيج القلوب والنفوس إلى سيرة رجل من رجال الإسلام، عاش ثلاثين عاماً في الجاهلية في ظلماتها، فكان نسياً منسياً، وكان ظلماً وظلاماً، ثم أشرق قلبه بالإيمان، فدخل تاريخ البشرية كله، ورفع راية العدل في ربوع الأرض، ونشر نور الإسلام، وأدخله في قلوب ونفوس كثير من الناس بإذن الله سبحانه وتعالى.
كان عمر في الجاهلية نسياً منسياً، فعاد بعد الإسلام ذكراً مجيداً عاطراً.
كان عمر رضي الله عنه في الجاهلية من أشد الناس وأغلظهم وأفظهم، ثم إذا هو في شأن الإيمان والخشية والتقوى من أرقهم في دين الله سبحانه وتعالى، وكان ذا قوة وشكيمة، فإذا به يجعلها قوة في دين الله، وحراسة لدين الله، وحماية لعباد الله، هكذا كان عمر في جاهليته، لم يكن فيه من الصفات والمزايا غير أن خيراً كان يستقر في نفسه، وكانت فيه خلال تتوارى في ظلمات الجاهلية، فاستخرجها الإسلام، وفتح لها الآفاق، ورباها محمد صلى الله عليه وسلم حتى عظمت كأعظم ما تكون الجبال.
فهذه أم عبد الله بنت حنتمة -وهي من المسلمات المهاجرات- كانت تعد عدتها من أجل الهجرة إلى الحبشة، يوم أن كان عمر ما يزال يرسف في أغلال الجاهلية، وكان من أشد كفار قريش على أهل الإسلام، فأتى عمر رضي الله عنه ودارت في ذهنه أول خاطرة من الخواطر المهيئة لإسلامه: كيف يخرج هؤلاء الناس من أرضهم؟ وكيف يتركون أهلهم وقرابتهم؟ وكيف يخلفون أموالهم وديارهم؟ أي شيء سرى في أولئك القوم فغيرهم؟ وأي أمر خالط عقولهم وقلوبهم فنورهم؟ تروي لنا هذه الصحابية قصتها فتقول: لما أردنا أن نرتحل مهاجرين إلى الحبشة أقبل عمر ووقف علي، وكنا نلقى منه البلاء والأذى والغلظة علينا، فقال لي: الانطلاق يا أم عبد الله؟ الرحيل؟ الوداع؟ الفراق؟ الهجرة؟ ترك الأهل والديار والأموال؟ الانطلاق يا أم عبد الله؟ قلت: نعم، والله! لنخرجن في أرض الله؛ لقد آذيتمونا وقهرتمونا؛ حتى يجعل الله لنا فرجاً! إنها كلمات ما سمع بها عمر من قبل، ومبادئ ما رآها متجسدة في الواقع من قبل، فإذا بـ عمر رضي الله عنه يرق، وتفجأه هذه القوة في موقف الحق، وهو يعرف القوة في أسمى معانيها، فيقول رضي الله عنه: صحبكم الله! تقول أم عبد الله: فرأيت منه رقة لم أرها من قبل، فلما جاء عامر بن ربيعة قلت له خبر عمر، فالتفت إلي وقال: لعلك طمعت في إسلام عمر؟ فقلت: نعم، قال: والله! لا يسلم؛ حتى يسلم حمار الخطاب! قالها مستبعداً إسلام عمر، مستنكراً أن يكون هذا الشديد على المسلمين الغليظ عليهم ممن سيكون يوماً ناصراً ومعزاًَ لهم بإذن الله، فانظر إلى أقدار الله كيف تسوق المرء إلى رضوان الله عز وجل، فكانت هذه أول ومضة.
ثم يذكر عمر رضي الله عنه كيف ساقته الأقدار مرة أخرى إلى إشراقة أقوى، فيروي لنا قوله: إنه مضى خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعرض له، خرج ليتعرض للرسول الكريم عليه الصلاة والسلام، قال: فإذا هو قد سبقني إلى المسجد.
أي: إلى بيت الله الحرام، قال: فقمت وراءه، فكان يقرأ من سورة الحاقة، قال عمر: ما رأيت مثل هذا الكلام، ثم قلت لنفسي: إنه شاعر، فتلا قول الله عز وجل في هذه السورة: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ} [الحاقة:40 - 41]، قال: فقلت في نفسي: فإنه كاهن، فتلا قوله سبحانه وتعالى: {وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [الحاقة:42]، ثم تلا الآيات، قال عمر رضي الله عنه: فوقع الإسلام في قلبي، ولكن بقايا الجاهلية وظلماتها ما تزال تصارعني، وتأتي دعوة رسول الله مع قدر الله، وتنطلق الدعوة النبوية الكريمة: (اللهم أعز الإسلام بأحد العمرين)، أي: إما بـ أبي جهل.
الذي هو عمرو بن هشام، أو بـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ لأنهما كانا أشد الناس على المسلمين، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم أن تكون إحدى هاتين القوتين للمسلمين على الأقل، فأصابت الدعوة عمر رضي الله عنه.
فتلك ومضة، ثم إشراقة، ثم دعوة، ثم يأتي القدر، ليروي لنا أهل السيرة قصة إسلام عمر رضي الله عنه: اجتمعت قريش لتنظر في شأن قتل محمد صلى الله عليه وسلم بعد أن بدأت هجرة أصحابه إلى الحبشة؛ تريد أن تتدارك الأمر، فقالوا: من يقتل محمداً؟ فقال عمر: أنا لها! كان صاحب قوة ومواقف، ولو كانت غير حق، فقالوا: أنت لها يا ابن الخطاب! فتوشح سيفه، وخرج يتيمم موقع محمد صلى الله عليه وسلم، وقد سمع أنه هو وأصحابه يجتمعون في مكان ما في الصفا، فلقيه رجل -اختُلف في اسمه أو في إسلامه- فجرى بينه وبينه حوار ساقته إليه الأقدار الإلهية، فإذا بهذا الرجل يعترض عمر، وهو قد خرج متوشحاً سيفه ليقتل به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن الله أراد أن يتوشح سيفه ليقف منافحاً عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، فقال له الرجل: أين تريد يا ابن الخطاب؟! قال: أريد محمداً الصابئ الذي فرق أمر قريش، وسفه أحلامها، وعاب آلهتها، وعاب دينها، وسب آلهتها، فأقتله، هكذا كان عمر في ذلك الموقف، وهو يعيب محمداً صلى الله عليه وسلم، ثم انقلب إلى أنه لو سمع شطر كلمة في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى لها دواءً إلا قطع لسان صاحبها، أو فصل ما بين رقبته وجسده، هكذا صار عمر رضي الله عنه، فانطلق، فقال له الرجل: لبئس الممشى مشيت يا عمر! وكان رجلاً ذكياًَ حصيفاً، فقال له: والله! لقد غرتك نفسك؛ ففرطت، وأردت هلكة بني عدي؛ أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي في الأرض وقد قتلت محمداً؟! أراد أن يصرف عمر بمثل هذه المقالة المخيفة، لكن عمر لا تثنيه هذه الكلمات العارضة وهذه التهديدات؛ فإنه من علو همته قد قال: أنا لها، فأراد أن يكون لها، وأراد الله عز وجل أن يكون لها بطريقة أخرى، فلم ينثن عمر عن هذا، فلما رأى الرجل عزمه قال: أوغير ذلك يا ابن الخطاب؟! قال: وما ذاك؟ قال: أختك وختنك قد سبقوا إلى دين محمد وصبئوا.
أراد أن يحرف الطريق، فرأى عمر -وقد كان ذلك ديدنه بعد ذلك في خلافته- أن يبدأ بأهله أولاً، فتوجه صوب بيت أخته وختنه؛ حتى يقوم ما اعوج في نظره، ثم ينصرف بعد ذلك إلى الغاية الأخرى، وأراد الله به الخير، فجاء وهم مع خباب بن الأرت يتدارسون القرآن خفية في ذلك الزمن في العهد المكي، فسمع هينمة القرآن، ثم دخل عمر بقوته، وبشدته، وبهيبته، دخل وقد اختبأ خباب رضي الله عنه حينذاك، ودخل عمر يسأل: ما هذه الهينمة التي تُسمع؟ قالوا: لا شيء؛ كنا نتحدث، كانت القلوب ترتعد من عمر خوفاً، لكن قلوب المؤمنين لا تأبه بالطغاة والجبارين، فلما رأى عمر هذه المقالة، قال: والله! لقد سمعت نبأً، وبدأ يرعد ويتوعد، فأراد ختنه سعيد بن زيد رضي الله عنه أن يواجه عمر بالحق، وأن يجهر في وجهه بالدعوة، وأن يظهر علو الإيمان وقوة الإسلام، فقال: يا عمر! أرأيت إن كان الحق في غير دينك؟ فماذا قال عمر؟ لم يكن قوله كلاماً وإنما كان ضرباً ولكماً، فوثب عمر على ختنه يضربه ويصارعه، فجاءت المرأة الضعيفة بجسمها، القوية بإيمانها، العزيزة بإسلامها، جاءت تذوده عن زوجها، وتضربه بيدها، فنفحها نفحة أزاحها عنه، وأدمى وجهها، فتحركت قوة الإيمان في قلبها رضي الله عنها، وقالت: يا عدو الله! أتضربني على أن أوحد الله؟ قال عمر في غيظته وشدته: نعم، فقالت له: ما كنت فاعلاً فافعل؛ أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله! فأدركت عمر رقة، وجاءته دعوة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، فقال: أعطوني صحيفتكم أقرأ فيها، وما كان هناك ذلك الخوف ولا التميع، فقالت: إنك امرؤ كافر نجس؛ وإنه لا يمسه إلا المطهرون، قم فاغتسل يا ابن الخطاب! فصارت تأمر عمر وتوجهه، فاستكان بداية لسكينة الإيمان، واغتسل عمر، وجاء يقرأ، والروايات في ذلك فيها أقوال كثيرة، ومنها: أنه قرأ أول طه: {طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى * تَنزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَوَاتِ الْعُلى * الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى * لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى} [طه:1 - 6]، قرأها عمر رضي الله عنه فانخلع لها قلبه، ورأى فيها عظمة؛ حتى قال: من كان هذا وصفه لا يصح أن يعبد معه غيره، ثم قال: دلوني على محمد، فدلوه على المكان بعينه، وهو دار الأرقم بن أبي الأرقم في أسفل ا