هنا يتميز الناس، وهنا تميز أصحاب محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا بأحدهم عندما يندق السهم في صدره وينفذ إلى قلبه يضحك ويتبسم ويقول: فزت ورب الكعبة؛ كان أحدهم يقبل على الموت ويذهب إليه ويرمي بنفسه إليه دون أن يختلج له طرف، أو أن يضطرب له قلب، أو أن يخالطه خوف.
هذا أنس بن النضر رضي الله عنه في أحد لما فاتته بدر قال: (لئن أشهدني الله يوماً كيوم بدر ليرين ما أصنع)، فلما جاء يوم أحد وحصل ما حصل من تحول موازين المعركة قال أنس بن النضر: (واهاً لريح الجنة! والله إني لأجد ريحها دون أحد) ثم انطلق ومضى، مضى إلى أي شيء؟ لم يمض ليلقي بموعظة في المسجد أو ليزور أخاً في الله، مضى إلى سيوف تبرق، وإلى دماء تسيل مضى إلى الموت وهو يراه أمام عينيه، فجعل يضرب في صفوف المشركين، ويلقي بنفسه عليهم، لا يعبأ بالموت ولا ينظر إليه، ولا يخشى منه، حتى استشهد وفي جسده بضع وثمانون ما بين ضربة وطعنة، وفي صحيح البخاري عن بعض الصحابة أنه قال: (ليس منها شيء في ظهره).
هؤلاء قوم تحققوا من إيمانهم، أما أن يكون الإيمان أقوالاً وادعاء، وبعض الأعمال التي فيها خير فإن ذلك مرتبة، ومرتبة أعلى منها هي مثل هذه المرتبة عندما مثل بها علي رضي الله عنه فقال: أي يومي من الموت أفر يوم لا قدر أو يوم قدر يوم لا قدر لا أرهبه ومن المقدور لا ينجو الحذر عندما يهدد الإنسان بالموت أو يرهب بأن تسلب منه الحياة، هنا تظهر آثار الإيمان القوية: هذا عبد الله بن حذافة السهمي لما كان في أسر أهل الكفر قال له عظيمهم وملكهم: تدخل في ديني وأعطيك شطر ملكي.
ينظر منظار المادة، قال: لو أعطيتني ملكك وملك غيرك ما تركت ديني، فجيء ببعض أسرى المسلمين يغمس أحدهم في زيت مغلي يدخل لحماً ويخرج عظماً، ثم الثاني والثالث، ليؤثروا على عبد الله بن حذافة ويقولون: اعلم أن مصيرك كمصيرهم إن لم تجب إلى ما أردنا.
يريدون أن يزعزعوا ثقته، أن يملئوا نفسه رعباً وقلبه خوفاً، لكنه كان في واد آخر غير واديهم، فدمعت عينه دمعة، فأخبر الملك بذلك، فأوقف الأمر وقال: لعله قد لان، ثم سأل: ما يبكيك؟ قال: قد ذكرت أن لي نفساً واحدة تغمس في هذا القدر فتزهق في سبيل الله، ولقد وددت لو أن لي بعدد شعر رأسي أنفس تزهق في سبيل الله عز وجل! بكى أن عنده نفساً واحدة تزهق في سبيل الله، وكان يتمنى أن تكون عنده أنفس كثيرة ليحقق إيمانه، ويبذل حياته في سبيل هذا الإيمان، يريدون منه أن يتزعزع بهذه السيوف التي تبرق بهذا الجبروت الذي يسيطر، لكن إيمانه كان أعلى وأقوى وأسمى من كل ذلك.
وهكذا نجد هذا الأثر واضحاً جلياً في مثل هذه الأمثلة، وليس مقصودنا الاستطراد والاستيعاب.