سحرة فرعون لما دعاهم فرعون وأقبلوا عليه كان أول قولهم: {أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ} [الشعراء:41].
أول شيء سألوا عنه وهم في ظلمات الكفر، وهم بعيدون عن الإيمان: (أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ) أرادوا مصلحتهم الذاتية على حساب المصالح الأخرى، وأرادوا حظهم الدنيوي دون اعتبار لحظ الآخرة، وانظروا إليهم وهم يقولون: (أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ)، لم يسألوا: هذه القضية حق أم باطل صدق أم كذب ظلم أم عدل؟ ما سألوا عن شيء من ذلك؛ لأنهم لا إيمان لهم، وبالتالي لا مبادئ عندهم لا قيم عندهم لا أخلاقيات عندهم ليس عندهم مقومات الحياة الإنسانية ولا مؤشرات الفطرة البشرية.
وأجابهم فرعون بنفس المنطق المادي الدنيوي الذي ليس له من الإيمان حظ ولا نصيب: {قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [الأعراف:114] أي: سيكون لكم أجر مادي، وستكونون من المقربين من فرعون وخاصته وحاشيته، وكان ذلك عندهم مما تهواه قلوبهم، ويخطف أبصارهم، وربما يبذلون كل ما يستطيعون لينالوا حظوة عند فرعون.
ثم مضت القصة كما نعلم، وألقى موسى عليه السلام عصاه: {فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} [الأعراف:117] فماذا حدث؟ آمن السحرة برب هارون وموسى.
ما الذي استغرقه هذا؟ جزء يسير من الزمن، كانوا قبل لحظة رمي العصا كافرين، وبعدها مؤمنين، فانظروا إلى التغيير الذي وقع فيه في كلامه في أفكاره في آماله في مقالبه لنرى أن هذه اللحظة كانت ومضة واحدة سريعة لكنها شملت تغييراً فكرياً نفسياً عاطفياً قوياً عملياً في كل شيء، هؤلاء السحرة الذين قالوا: {أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ} [الشعراء:41] وكانوا يريدون إبطال الحق ومعاداته، ماذا قالوا بعد أن آمنوا؟ {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى} [طه:70] وذكروا هارون مقدماً على موسى في سورة طه، ومؤخراً عنه في الشعراء، وهارون ما ألقى عصا ولا جابه سحرهم، إنما أرادوا بهذا أن يقولوا: آمنا بالإيمان الحقيقي، آمنا برب هارون الذي لم يعمل لنا شيئاً، ولم يواجهنا بعصا، كما آمنا برب موسى، فنحن لم نؤمن بالعصا لم نؤمن بهذه القوة الظاهرية، وإنما عرفنا أنها تعبر عن صدق في الرسالة، وحقيقة الإيمان الذي بعث به موسى عليه السلام.
وجاء فرعون بالمنطق الدنيوي الذي بقي عليه: {فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه:71] هؤلاء الذين كانوا ينتظرون من فرعون نظرة، وينتظرون منه عطاء، انظروا إلى قولهم وموقفهم! قالوا له وقد تغيرت أفكارهم وآمالهم ومشاعرهم وطموحاتهم: مسكين أنت يا فرعون! ما زلت في ظلمات الكفر! ما زال عقلك بليداً! ما زالت أفكارك تافهة! ما زال حيزك محدوداً ضيقاً! أما نحن فقد تغيرنا فقالوا: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه:72].
افعل ما تشاء فإن ما تفعل كله في ميدان الحياة الدنيا، ونحن عندنا أمر آخر وحياة أخرى، فإن أردت أن تقتل فلتقتل فإن وراء الموت حياة أخرى، وإن أردت أن تحرم فافعل فإن وراء الحرمان نعيماً، وهذه لحظة إيمان واحدة.
ثم لما جابههم وجادلهم قالوا: {إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء:51] في السابق كانوا يريدون الأموال والعطاء، والآن يريدون المغفرة والرضوان من الله سبحانه وتعالى، هكذا غيرهم الإيمان في موقف واحد، كانوا قد دخلوا على فرعون راكعين خاضعين معظمين له، كانوا يريدون من فرعون العطاء والنوال، ويرجون عنده المنزلة والجاه، ثم إذا بهم يعرضون عن ذلك كله، ولا يلتفتون إليه، ولا يرهبون قوة فرعون ولا سلطانه ولا جبروته، كل ذلك يعبر لنا عن أمر -كما قلت في الكلمات هو أمر بارد- قد لا يظهر له ذلك التأثير نقول: السبب أنهم آمنوا، لكن انظر إلى حقيقة هذا الإيمان وفهمه الشامل الذي غير كل شيء في هؤلاء القوم.