الحمد لله الرحيم الرحمان، الكريم المنان، ذو الفضل والجود والإحسان، حبب إلينا الإيمان، وكره لنا الكفر والفسوق والعصيان، أحمده سبحانه وتعالى حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ويرضى على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، حمداً نلقى به أجراً، ويمحو الله به عنا وزراً، ويجعله لنا عنده ذخراً.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير.
وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وحبيبنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، علم الهدى، ومنار التقى، ختم الله به الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين، وأرسله إلى الناس كافة أجمعين، هدى به من الضلالة، وأرشد به من الغواية، وكثر به من بعد قلة، وأعز به من بعد ذلة، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
أما بعد: فها نحن نواصل حديثنا في الوصايا الربانية التي جاءت في سورة الأنعام، وقد سلف لنا الحديث عن التوحيد والنهي عن الشرك، ومر بنا أمر بر الوالدين وأهميته وآثاره الدنيوية والأخروية، ووصية اليوم عظيمة مهمة، لها أثرها في النفوس والقلوب، ولها أثرها في الأمن والأمان، ولها أثرها في العرض والشرف والأنساب، قال جل وعلا: {وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأنعام:151] والفواحش: كل ما فحش وزاد عن الحد بحيث يكون في غاية الذم والقبح.
وذلك يتناول المعاصي والذنوب الكبيرة في جملتها، ما كان منها ظاهراً -أي: في الجوارح قولاً أو فعلاً كقذف أو زنا- وما كان منها باطناً بالقلب، سواءٌ أكان كفراً وشركاً، أم استكباراً، وغير ذلك من أدواء القلوب.
وسياق الآيات فيما مضى يبين لنا أن النهي مختص بأمور بعينها، كما مر في الشرك وفي بر الوالدين، وكما يأتي في النهي عن أموال اليتامى وعن عدم الوفاء والقيام بالميزان والقسط، ومن هنا ذكر أهل التفسير أن من المعاني الظاهرة للفواحش اختصاصها بالزنا -أعاذنا الله وإياكم منه ومن القرب منه-؛ لأن السياق يحدد أموراً بعينها ومحرمات بذاتها، فغلب بعض أهل التفسير اختصاص هذه الفواحش في الآية بالزنا، وكل ما زاد عن حده فإنه داخل في عموم ذلك، وقد ذكر كثير من أهل التفسير عند هذه الآية ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كانوا في الجاهلية لا يرون بأساً بالزنا في السر، ويستقبحونه في العلانية، فحرم الزنا في السر والعلانية) وذلك فيه دلالة على هذا المعنى الذي غلبه بعض أهل التفسير.
ووقفتنا الأولى في قوله جل وعلا: {وَلا تَقْرَبُوا} [الأنعام:151] والنهي عن القرب مبالغة في النهي عن الفعل؛ لأنه إذا قيل: لا تقترب من هذا المكان فلا شك أنه من باب الأولى أنك لا تصل إليه ولا تدخل فيه، ومعنى ذلك -كما هو معلوم- أن المعنى ترك كل ما يقرب من الزنا ويوصل إليه، ويهيج النفوس والشهوات إليه، ويبعث الفكر فيه، ويعلق النظر به، ويرعي السمع ويصغيه إليه؛ لأن كل الجوارح تتأثر وتفضي إلى القلب حتى ينعقد العزم وتتوجه الإرادة من بعد لفعل ما تأثر به ذلك القلب، فالعين تنظر، لكن الأثر يكون في القلب ميلاً وشهوة إلى ما رأت العين، والأذن تسمع، والقلب يميل ويهفو، وكذلك كل ما يتعلق بفعل الإنسان يعود أثره على قلبه ونفسه ميلاً وتوجهاً.