وثمة أمر آخر: وهو الخطاب الذي يوجهه النبي صلى الله عليه وسلم، ويوجهه من بعده من حملة رسالته وأتباع سنته، فقوله: (قُلْ تَعَالَوْا) هذا النداء للخلق جميعاً، ويخص المسلمين وغير المسلمين معاً، فإن هذا النداء هو نداء هذه الشريعة الخاتمة، والرسالة التي بعث بها محمد صلى الله عليه وسلم.
وما سبق من هذه الآيات يبين لنا حكمة وضع هذه الآيات في هذا السياق؛ وذلك أن الآيات السابقة كانت تخاطبنا عن المشركين من أهل الجاهلية، وعن أفعالهم الشنيعة التي أحلوا فيها ما حرم الله، وحرموا فيها ما أحل الله؛ اتباعاً لأهوائهم، وتقريراً لأعرافهم، وتثبيتاً لجاهليتهم، ومن هنا جاء الخطاب الرباني في مواجهتهم قبل هذه الآيات والوصايا بقوله سبحانه: {قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمْ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:150]، فأولئك حرفوا وبدلوا وغيروا، فجاء النداء لتصحيح المسار، فإنه لا حلال إلا ما أحل الله، ولا حرام إلا ما حرم الله، ولا شرع إلا ما جاء عن الله أو بلغه رسوله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36]، فليس هناك اختيارات، وليس هناك أنواع من الأهواء التي تقدم شيئاً أو تؤخره، وإلا كان ذلك ضرباً من مناقضة أصل الإيمان، ومخالفة صفاء التوحيد، كما قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65] أي: يقبلوا قبولاً تاماً من أعماق قلوبهم ونفوسهم دون أدنى شك، ولا أقل حرج، ولا أيسر معارضة، ولا شيء مما فيه ضرب من الاعتراض بحال من الأحوال.
ولذلك جاء هذا الخطاب وهذه الوصية التي أمر بها المصطفى عليه الصلاة والسلام؛ لتبين لنا جملة الأمور المهمة، كما روي عن ابن عباس: أن هذه الوصايا قد أجمعت عليها الشرائع كلها، ولم ينسخ منها شيء قط، وأنها خلاصة هذا الدين وجوهره، وأن بها العصمة من كل زلل، ومن كل فتنة، ومن استمسك بها فقد أدى ما عليه، وقد وفّى لله جل وعلا بما أمره به ونهاه عنه، وبعد ذلك فمن قصر أو فرط فحسابه على الله عز وجل.