ثم لما تقارب الأمر وحل الجيش قام النبي صلى الله عليه وسلم وبعث الحباب بن المنذر قبل الغزوة عندما وصلت قريش إليهم، وقال له عليه الصلاة والسلام: اذهب إليهم وائتني بخبرهم، ولا تخبرني بخبرهم بين أحد من المسلمين، قال: فدخل فيهم وحزر ونظر وجاس بينهم.
وهذا من شجاعته من جهة، ومن فرط ذكائه وحسن حيلته وتدبيره من جهة، ثم انظروا إلى التقرير الاستخباراتي الذي جاء به هذا الصحابي الجليل رضي الله عنه (قال: يا رسول الله! والله لقد رأيت أعداداً حزرتهم ثلاثة آلاف يزيدون قليلاً أو ينقصون قليلاً، ومعهم أفراس حزرتها مائتين من الخيل، ومعهم أدرع حزرتها سبعمائة، وإبل حزرتها ثلاثة آلاف، ثم سأله النبي صلى الله عليه وسلم: أرأيت معهم الظعن -أي: النساء-؟ قال: نعم يا رسول الله! رأيتهم ومعهم الدفاف والأكبار -أي: الطبول والدفوف- فقال صلى الله عليه وسلم: أردن أن يحركنهم وأن يذكرنهم قتلى بدر، هكذا جاءني خبرهم، ثم قال له: لا تذكر مما قلت شيئاً ولا حرفاً، ثم قال سيد الخلق صلى الله عليه وسلم: حسبنا الله ونعم الوكيل، اللهم بك أجول وبك أصول).
إنه الاعتماد على الله، والتوكل عليه، والثقة به، والالتجاء إليه، إنه اليقين الذي لا يتزعزع معه قدم، ولا يطيش معه عقل، ولا يخالج النفس منه اضطراب، ولا يداخل القلب منه خوف، إنه علم لمعرفة الحقيقة لا ليكون أثرها الوهن والضعف والخذلان، بل ليكون أثرها من قوة الإيمان وعظمة اليقين، مع شدة وصدق الالتجاء إلى الله سبحانه وتعالى: (اللهم بك أجول وبك أصول) هذا كان شعار المصطفى صلى الله عليه وسلم.
تلك مقدمات تبين لنا اليقظة والانتباه والرصد وجمع المعلومات، وتبين أن أعداء الحق لا يفترون ساعة ولا تتوقف مكائدهم لحظة، فلا ينبغي أن يكون المسلمون في غفلة، وأن يكونوا مسرفين في حسن الظن حتى بلغوا حد السفه والسذاجة، حتى وصفوا أعداءهم بأنهم شركاؤهم، وقالوا في حق من تربصوا بهم الدوائر وثبتت جرائمهم وتيقن عداؤهم: إنهم لا بأس أن يكونوا معه في صف واحد في مواجهة أمور انطلت حيلها وترددت كلماتها في وسائل الإعلام، حتى راجت وصارت هي حجة كل أحد في كل مسلك خاطئ، وفي كل اعوجاج مستمر، نسأل الله السلامة!