بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، نحمده جل وعلا على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، ونصلي ونسلم على خير خلق الله وخاتم رسل الله نبينا محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وعلى من اتبع سنته واقتفى أثره وسار على هداه، وعلينا وعلى سائر عباد الله الصالحين والدعاة.
أما بعد: فهذا الموضوع عنوانه: الكلمة مسئوليتها وفاعليتها.
والحق أن هذا الموضوع متشعب الجوانب، ويطول الحديث فيه، إلا أن التركيز سيكون على بعض ما أحسب أنه أكثر أهمية، وفي الوقت نفسه أكثر دروجاً واستعمالاً في واقع حياة الأمة المسلمة، وواقع حياة شباب الصحوة والدعوة على وجه الخصوص، وعندما نقول: (الكلمة) فلا نعني بها -قطعاً- الكلمة المفردة، وإنما الكلمة الكلام، كما قال ابن مالك: كلامنا لفظ مفيد كاستقم واسم وفعل ثم حرف الكلم واحده كلمة والقول عم وكلمة بها كلام قد يؤم أي: يقصد بالكلمة الكلام.
وعندما نقول: كلمة الحفل ليست هي كلمة واحدة، وإنما مجموع ذلك القول يقال له: كلمة.
إذاً الكلمة هي كل كلام ينطق أو يكتب.
وللكلمة سبيل لوصولها ونشرها، ألا وهو النطق بها عن طريق اللسان وتستقبلها الآذان، أو الكتابة لها على صفحات الورق وتستقبلها العيون بالقراءة والاطلاع.
وأول ما أبدأ به أهمية الكلمة.
إن الكلمة تكاد تكون كل شيء في حياة الإنسان عموماً، فهي ذات جوانب متعددة في الأهمية: الأمر الأول: إعلان المبادئ والمعتقدات، فالكلمة هي التي تعلن بها إسلامك وإيمانك، كما أنها هي التي يعرف بها كفر الكافرين وجحود الجاحدين، كما قال القائل: إن الكلام لفي الفؤاد وإنما جعل اللسان على الفؤاد دليلا والألسنة -كما يقال- مغاريف القلوب، هي التي تعبر عما استقر فيها من الإيمان والمعتقدات، ولذلك قال جل وعلا: {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا} [الفتح:26] وكلمة التقوى هنا هي كلمة التوحيد: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
وقال سبحانه وتعالى في شأن المنافقين الذين كفروا وظهر كفرهم على فلتات ألسنتهم في غزوة تبوك: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا} [التوبة:74] فذاك إعلان بإسلام وهذا والعياذ بالله نطق بكفران.
الأمر الثاني: الكلمة يقع بها إبرام العقود والمعاهدات، فأنت إذا أردت أن تبيع وتشتري فعقد ذلك وصحته مبني على النطق بالكلمة، بأن يقول الأول: بعت.
ويقول الآخر: اشتريت.
بل حتى فيما هو أعظم من ذلك من العقود التي وصفها الله عز وجل بأنها غليظة مؤكدة كعقد الزواج، بأن يقول الأول: زوجتك.
ويقول الآخر: قبلت.
فينعقد عقد له أهميته، قال الله جل وعلا فيه: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [النساء:21] وبهذه الكلمة أيضاً تعقد وتبرم المعاهدات، كما كان في معاهدات النبي صلى الله عليه وسلم التي أبرمها مع اليهود في أول قدومه المدينة، وكما كان يعقد المعاهدات أيضاً مع قريش كما في صلح الحديبية، وكما هي سائر العقود والمعاهدات التي تبدأ بكلمة كما أنها تنقض بكلمة، فعقد الزواج الذي يقع بالكلمة كذلك يفصل بكلمة الطلاق، فليست الكلمة مجرد أحرف ينطق بها، ولا هي مجرد الصوت الذي يقال فيه: إنه تموج الهواء عند اصطدام جسمين أو تباعدهما، أو اهتزاز الأحبال الصوتية.
بل الكلمة أعمق من ذلك، هي الحكم والعقل والتفكير والإرادة والنظرة المستقبلية التي يعمل التفكير في هذه الجوانب كلها قبل أن ينطق بها، فلا يُعقد عقد ولا يُبرم عهد بمجرد كلام سائب لا خطام له ولا زمام كما يقال.
الأمر الثالث: النطق بالأحكام والاتهامات والتزكيات، فاللسان هو الذي ينطق بالحكم فيقرر الإدانة، أو يعلن البراءة، كما أنه هو الذي يقذف بالتهم التي قد تكون صحيحة وقد تكون باطلة، فهذا يتهم ذاك بسرقة أو زناً، والله جل وعلا قد جعل لذلك حداً إما أن يثبت مثل هذا الجرم، وإما أن يكون قد قذف بغير علم أو بغير بينة، فيكون مؤاخذاً على هذه الكلمة، بل محدوداً عليها كما هو معروف في حد القذف الذي يرمي به الإنسان غيره بتهمة الزنا والفاحشة، نسأل الله عز وجل السلامة، كما أن هذا اللسان وهذه الكلمة هي التي تصف الإنسان بإسلام وإيمان، أو قد يتجاوز الأمر إلى اتهام بتفسيق أو تبديع أو كفر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من قال لأخيه: يا كافر فقد باء بها أحدهما) فليست الكلمة أمراً هيناً، بل لها أعظم أهمية في مثل هذا الميدان الخطير.
الأمر الرابع: الخوض في المنهيات والمحرمات، وحسبك أنك قد لا تستطيع أن تحصي آفات اللسان من تدخل فيما لا يعني، ومن فضول كلام، ومن خوض في باطل، ومن كذب وغيبة ونميمة ومراء وجدال ومزاح في غير الحق، وغير ذلك من الأمور التي يطول ذكرها، كلها أيضاً يقع الخوض فيها باللسان نطقاً أو كتابة، أو بالكلمة نطقاً أو كتابة.
الأمر الخامس: اللهج بالأذكار والدعوات، وهذا جانب أيضاً من جوانب الخير والعبادات، فإن أكثر العبادات مبني على النطق بالكلمات، فالصلاة تلاوة للقرآن وترديد للأذكار ونطق بالدعوات، إضافة إلى ذكر الله عز وجل وتلاوة القرآن وغير ذلك، كله أيضاً يكون بهذه الكلمة.
الأمر السادس: نشر الدعوة والتعليم، سواء أكانت هذه الدعوة دعوة خيرة أم غير خيرة، وسواء أكان هذا التعليم نافعاً أو ضاراً، فاللسان والكلمة على وجه الخصوص هي التي تنشر تلك الدعوة أو تروج لذلك العلم، ولذلك كل هذه الجوانب لو تأمل الإنسان فيها لوجد أنها تحيط بمعظم مجريات الحياة ومعظم ما يتعامل به الناس، فإن أمر العقائد والمبادئ، وأمر العقود والمعاهدات، وأمر الأحكام والاتهامات، وأمر المنهيات والمحرمات، والطاعات والعبادات، ثم الدعوة والتعليم يكاد يكون جل -إن لم يكن كل- جوانب الحياة.