أنتقل إلى جانب مهم يهم الرجال والنساء معاً، ذلك هو جانب المعاملة الزوجية التي كانت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل الخلق أجمعين وبين عائشة رضي الله عنها، وهي من علمنا فضلها وخصائصها.
جملة من الروايات والقصص في معاملة رسول الله عليه الصلاة والسلام لـ عائشة تكشف لنا عما ينبغي أن يكون عليه الرجل مع زوجته، وما ينبغي أن تكون عليه الزوجة مع زوجها.
فمن ذلك تلطفه عليه الصلاة والسلام ورقته وحنانه ومحبته وتودده لـ عائشة رضي الله عنها، كما ورد في الصحيح عن عائشة تقول: (لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم على باب حجرتي والحبشة يلعبون بالحراب في المسجد، وإنه ليسترني بردائه لكي أنظر إلى لعبهم، ثم يقف من أجلي حتى أكون أنا التي أنصرف، فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن، الحريصة على اللهو) فهذا الرسول عليه الصلاة والسلام -وهو من هو عظمة- يتودد إلى عائشة، ويمكنها من أن ترى بعض ما يدخل السرور على نفسها، ويقف لأجلها حتى يكون رداءاً وساتراً لها، ولا يتحرك حتى تنتهي من مطالعتها ومن متعتها وسرورها تلطفاً منه عليه الصلاة والسلام ومراعاة لها ولسنها، فما بال الرجال يأنفون من أقل من هذا بكثير، بل يستكثرون به على أزواجهم، ويظنون أن في ذلك إذهاباً لهيبتهم، وأنه لا بد أن يكون الواحد منهم متجهم الوجه، مقطب الجبين، ينظر بعينه شزراً، وتتقد عينه جمراً، وإن لم يكن كذلك فلا يكون رجلاً، هذا لا شك أنه من فرط الجهل لأصول المعاشرة.
فإن الإنسان قد يتوقى ويتحرز من الناس البعيدين أو الأغراب، أما من تكثر الخلطة معهم فلا بد من أن تكون معهم على لين وتودد وتلطف، وعلى ترسل في المعاملة من غير تكلف، وعلى إبداء ما عندك دون حرج؛ لأنك ستلقاهم كل يوم، فلو تحفظت وتحرجت وتهيبت فإنك لا تستطيع أن تستمر على ذلك.
قد ترى الإنسان عندما تتعرف إليه أول أمره لا يتكلم معك في خاص أموره، ولا فيما يتعلق ببعض ما يحترز منه من الدعابة أو المزاح أو كذا، لكن إذا أكثرت خلطته وعشرته بدا لك منه كل شيء، فكيف يكون الرجل مع زوجته وهي أقرب الناس إليه وأكثرهم عشرة له ثم لا يتلطف ولا يتودد ولا يكون في سيرته معها على ما هو طبعه وسجيته دون أن يكون متكلفاً ولا متجهماً؟! وكذلك من لطائف هذه المعاملة الزوجية ما ورد في الصحيحين من حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: (إني لأعلم إذا كنت عني راضية وإذا كنت عليّ غضبى).
ليس هناك من غضاضة ولا جرم ولا كبيرة من الكبائر أن تغضب المرأة على زوجها، لما قد يقع من أسباب الاختلاف المعتادة في حياة الناس، ولكن انظر إلى أدب عائشة وإلى فطنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت له: (كيف ذاك يا رسول الله -أي: كيف تعرف رضاي من غضبي-؟! فقال: إذا كنت راضية عني قلت: لا ورب محمد.
وإذا كنت غضبى قلت: لا ورب إبراهيم، فقالت عائشة رضي الله عنها: أجل والله ما أهجر -يا رسول الله- إلا اسمك) فهذا يدل على أنه قد يقع ما يوجب الخلاف والنزاع، ولكن لا بد أن يكون له حده، فلا تتجرأ المرأة على زوجها ولا تشتمه ولا تنتقصه ولا تذكره بما يسوءه، ولا تنعته بما لا يحب ولا تصفه بما يكره، ولا تنبزه بما هو عيب وإن كان فيه، لئلا توغر صدره وتجعل -كما نقول- من الحبة قبة، ولئلا تنفخ في نار هذه الشحناء اليسيرة والمخالفة اليسيرة، فإذا بها تغدو مشكلة كبيرة وصراعاً عنيفاً لا يحل بسهولة، ثم انظر إلى أدب عائشة رضي الله عنها وحسن تقديرها وتعظيمها لرسول الله عليه الصلاة والسلام مع إشعارها بأنها غضبى حتى يتلطف معها، فإنها تشعره بأقل القليل الذي يغني عن غيره، فكانت تقول: (لا ورب إبراهيم) وإذا كانت راضية تقول: (لا ورب محمد) وما أخطأت في القولين كليهما، وإنما أحسنت في الأدب، وانظر إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام! ما قال لها: إني أعرف أنك غاضبة ليقابل غضبها بغضب، وإنما ليستل ويدخل هذا المدخل اللطيف الودود المحبب ويقول لها مداعباً وملاطفاً: إني أعرف هذه الحالة وهذه الحالة.
وبين لها أنه قد بلغته رسالتها وعرف مقصدها، وأراد أن يمحو ما كان من سبب هذا الغضب.
ومن ذلك أيضاً ما ورد في حديث النعمان بن بشير قال: (استأذن أبو بكر على النبي صلى الله عليه وسلم فإذا عائشة ترفع صوتها عليه فقال: يا بنت فلانة!) وهذه أساليب العرب العجيبة في تعاملهم، هي ابنته لكن في هذا الفعل لم يكن راضياً عنها، فلم يرد أن ينسبها إليه وهي تفعل فعلاً لا يحبه فقال: (يا ابنة فلانة!) نسبها إلى أمها، ثم قال: (ترفعين صوتك على رسول الله صلى الله عليه وسلم! فحال النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبينها، أراد أبو بكر أن يتوجه إلى عائشة ليضربها ويعنفها، وقد استنبط بعض أهل العلم أنه يجوز لأب البنت أن يربيها وأن يزجرها بحضرة زوجها، لكن انظر): (فحال النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبينها) مع أن النبي عليه الصلاة والسلام هو -إذا صح التعبير- المعتدى عليه، وعائشة هي التي رفعت صوتها عليه، ومع ذلك حال بينها وبينه: (ثم خرج أبو بكر رضي الله عنه فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يترضاها) يترضى عائشة ويتلطف معها وقال: (ألم تريني حلت بينك وبين الرجل؟!) يستشفع بالموقف الدفاعي الذي وقفه عليه الصلاة والسلام، ثم استأذن أبو بكر مرة أخرى فسمع تضاحكهما، أي: النبي عليه الصلاة والسلام وعائشة.
قد أزال عليه الصلاة والسلام بحسن معاملته هذا الأمر الذي كان سبب هذا الغضب، فقال أبو بكر: (أشركاني في سلمكما كما أشركتماني في حربكما) ما أجمل هذا الموقف! وما أرق رسول الله صلى الله عليه وسلم! وما أحسن تأتي.
عائشة ولينها وانكسارها لرسول الله عليه الصلاة والسلام! ومعلوم أن الحياة الزوجية لا تخلو من المكدرات، ولكن هذه المعاملة هي التي تزيل أسباب الكدر، وإذا كانت هناك مكدرات فإن هناك مهدئات ومسكنات من هذه المعاملة اللطيفة، فلذلك رفعت المرأة صوتها على زوجها ولم يكن زوجها أي أحد، بل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقبل منها مراعاة لطبيعتها وغضاً للطرف عما سبب لها ذلك الغضب، ثم بعد ذلك حال بينها وبين أبيها، ثم جعل يترضاها ويستشفع بما كان منه من موقف تجاهها، ثم تضاحك الزوجان مرة أخرى وعاد الوئام في لحظات، وإن لم يكن الأمر كذلك فإن الكلمة تجر أختها، وأحياناً الحركة تجر غيرها، وتزداد الشقة والخلاف والنزاع.
والحديث هنا لعله يكون أكثر توجيهاً للأزواج والرجال أكثر منه للنساء، كل هذه المواقف تربية في سيرة عائشة وهدي رسول الله عليه الصلاة والسلام لكلا الجنسين، ففي حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: (سابقني رسول الله صلى الله عليه وسلم فسبقته ما شاء -أي: أكثر من مرة- حتى إذا رهقني اللحم سابقني فسبقني، فقال: يا عائشة! هذه بتلك).
موقف جميل جداً لعل الواحد منا يتنزه عما هو أقل منه، ويرى أن ذلك خارم لمروءته وجارح في عدالته وإنزال من منزلته، فإذا ظن ذلك فليستغفر؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فعل ذلك، ولنا فيه قدوة وأسوة حسنة، فإنه كان يتلطف بهذا، وهذا يدلنا أيضاً على عظمة رسول الله عليه الصلاة والسلام من وجه آخر، فإنه كان يجيش الجيوش، ويدرس الدروس، ويربي الرجال، ولم يشغله كل ذلك عن أن يكون مؤدياً لحق أهله ومراعياً لزوجته حتى في تفرغه لمسابقتها ومداعبتها وملاعبتها، وغير ذلك من الأمور التي ينشغل عنها الناس اليوم، ولا يفطنون لها ولا يتوددون بها إلى أزواجهم، فتبقى الحياة كاحتكاك الحديد بالحديد ليس هناك بينهما حسن التلطف والتودد الذي يزيل هذا الاحتكاك ويجعل المسائل على أحسن وجه مما يجعل الحياة الزوجية هانئة سعيدة.
ومن لطفه عليه الصلاة والسلام وعظيم محبته لـ عائشة رضي الله عنها -وهذا حب فريد منه عليه الصلاة والسلام يعلمنا به أن الحب في ظل الشرع أمر لا حرج فيه- ما روته عائشة رضي الله عنها فقالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيني العظم فأتعرقه - أي: تأكل عروق العظم ما بقي من اللحم - ثم يأخذه فيديره حتى يضع فاه على موضع فمي) كان يفعل ذلك صلى الله عليه وسلم تحبباً وتلطفاً معها وإشعاراً لمنزلتها عنده صلى الله عليه وسلم.
وهنا أيضاً حادثة لطيفة فيما يتعلق بين الزوجات مع أزواجهن، والرواية عن القاسم عن عائشة رضي الله عنها (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج أقرع بين نسائه، فطارت القرعة لـ عائشة وحفصة معها، وكان إذا كان بالليل يمشي مع عائشة يتحدث وقت الليل، ثم بعد ذلك يرجع فينام، فقالت حفصة: ألا تركبين الليلة بعيري وأركب بعيرك تنظرين وأنظر -تعني: تجربين هذا البعير وأنا أجرب بعيرك-؟ فقالت: بلى.
فركبت فجاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى جمل عائشة وعليه حفصة فسلم عليها ثم سار حتى نزلوا، وافتقدته عائشة، فلما نزلوا جعلت رجليها بين الإذخر وجعلت تقول: يا رب! سلط علي عقرباً أو حية تلدغني، رسولك ولا أستطيع أن أقول له شيئاً) تبدي ما كان من ندمها في هذا الشأن.
فهذه مواقف يسيرة من معاملة الرسول عليه الصلاة والسلام لـ عائشة رضي الله عنها، وحسن أدب عائشة مع المصطفى عليه الصلاة والسلام.
وهذا كله يدلنا على ما ينبغي أن يكون بين الرجل وزوجته.