أنتقل إلى جانب مهم من جوانب سيرة عائشة رضي الله عنها، ذلك هو علمها؛ لأن هذا الجانب يكاد يكون في غاية الضعف عند نسائنا في هذه الأيام، فإننا إذا تحدثنا عن طلب العلم والحرص على دروس العلم ونحو ذلك فكأن الغالب في أذهاننا أن ذلك الحديث مخصوص بالشباب دون الشابات، وبالرجال دون النساء، وكذلك نجد أن البيئة التي نعيش فيها تظهر فيها نماذج من طلبة العلم والحريصين عليه حفظاً لكتاب الله عز وجل، وحفظاً لسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، واطلاعاً على أقوال أهل العلم وكتب الفقهاء وغير ذلك، نجد ذلك في صفوف الرجال والشباب أكثر منه في صفوف النساء، حتى توهم الناس أنه لا يكون للمرأة قدرة على أن يكون حظها من العلم مثل حظ غيرها من الرجال، بل قد سرى وهم إلى بعض الرجال أن المرأة زوجة كانت له أو بنتاً أو أختاً أنها دون أن تكون لها صلة بالعلم والاستنباط والفهم والفقه، مع أن هذا غير صحيح، ونشأ عن هذا فقر مهم، وفي نفس الوقت خطير؛ لأن النساء لهن حاجات ومسائل قد يمنعهن الحياء أن يسألن عنها الرجال، وخاصة في أمور المعاشرة مع الأزواج، وفي أمور الطهارة الخاصة بالنساء، فلما قل الفقه في النساء أصبح وقوع الخلل منهن لعدم سؤالهن للرجال حياءً أو تحرجاً أو غير ذلك أصبح هذا ظاهراً بشكل كبير، وهذا أيضاً مدخل خطير؛ لأن عدم تهيؤ المرأة واستعدادها وميلها وعلمها بإمكانية طلبها للعلم ونبوغها فيه ونفعها لبنات جنسها جعلها أكثر عرضة وتهيئةً لأن يصطادها أعداء الله عز وجل، وأن يشغلوها بأفكار ومطالعات وقراءات بعيدة عما ينفعها في دينها ودنياها وفي آخرتها.
ولذلك في الحقيقة أرى أن جانب العلم -سيما في الأمور التي تخص المرأة- من المهم جداً أن تنتدب له النساء الصالحات القانتات العابدات، وأن يحث الرجل من له عليه ولاية من النساء على أن تأخذ حظها من العلم لتنفع نفسها وتنفع بنات جنسها، وإن حديث الرجال إلى النساء قاصر في تأثيره وفي لمسه لحاجتهن ومعرفته بأحوالهن، ولذا يكون لسان المرأة إلى المرأة أبلغ، وتعليم المرأة للمرأة أقوى، ولأن الحواجز والموانع الشرعية من الحجاب وغير ذلك تمنع من أن يكون التواصل العلمي والتربوي كاملاً، فإنه لا يغني ذلك من جانب الرجال الغناء الكامل، بل لا بد أن يكون في صفوف النساء المسلمات عالمات ومربيات وداعيات؛ لأن علمهن بأحوال النساء وقربهن منهن وقدرتهن على معاشرتهن ومواجهتهن ومكاشفتهن ومصارحتهن تؤدي دوراً أكبر، ولذلك أسوق هذه القدوة في العلم للنساء وللرجال، فإن عائشة رضي الله عنها قد كان الرجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أشكل عليهم الأمر وأعجزتهم المسألة رجعوا إليها رضي الله عنها، فأخبرتهم حكم وخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها.
فلذلك قال الذهبي رحمة الله عليه: إن عائشة أفقه نساء الأمة على الإطلاق.
وذكر أن مسند عائشة من الأحاديث يبلغ ألفين ومائتين وعشرة أحاديث، اتفق البخاري ومسلم منها على مائة وأربعة وسبعين حديثاً، وانفرد البخاري بأربعة وخمسين حديثاً، وانفرد مسلم بتسعة وستين حديثاً، ولا يوجد في النساء من هي أكثر رواية لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من عائشة، ولم يكن زواج النبي صلى الله عليه وسلم بالعدد الكثير من النساء عبثاً، وإنما كان ليطلعن على ما لا يطلع عليه إلا المرأة من زوجها في شأن الأمور الدقيقة، فينقلن هذا العلم والأحكام الشرعية المتعلقة بأخص خصائص ما بين الرجل وزوجته لنساء الأمة ورجالها على حد سواء، ولذلك قال الذهبي: لا أعلم في أمة محمد صلى الله عليه وسلم بل ولا في النساء مطلقاً امرأة أعلم منها.
وقال الزهري: لو جمع علم عائشة إلى علم جميع أزوجه وعلم جميع النساء لكان علم عائشة أفضل.
وقال عطاء بن أبي رباح: كانت عائشة رضي الله عنها أفقه الناس، وأعلم الناس، وأحسن الناس رأياً في العامة.
وتأمل هذه الجملة الأخيرة، بل تأمل هذا النص كله: (كانت أفقه الناس وأعلم الناس) فالفقه غير العلم، العلم حفظ، والفقه استنباط، فقد جمعت بين الأمرين معاً (وأحسن الناس رأياً في العامة) أي أنها تعرف أمور الناس ومجريات الحياة، وما ينبغي أن يكون من التوجيه، وكيف تكون هذا الأساليب.
وقد ورد في مسند الإمام أحمد بسند صحيح أن عائشة رضي الله عنها استدعت قاص أهل المدينة الذي كان يقص لهم القصص ويعظهم بالمواعظ وقالت له: لَتعاهِدَنيِّ أو لأقاطعنك.
قال: علام يا أم المؤمنين -أو: زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ - قالت: (أن لا تمل الناس وأن لا تقنطهم، وإذا حدثتهم فحدثهم يوماً ويوماً) تعني: لا تملهم في الحديث.
وقالت له: لا تملهم بطول حديثك وتكراره، ولا تقنطهم بتأييسهم من رحمه الله عز وجل وإكثار الخوف عليهم دون أن تفتح لهم باب الرجاء.
وتلك العبارة تدلنا على أنها كانت أحسن الناس رأياً في العامة.
وقال عروة: ما رأيت أحداً أعلم بفقه ولا طب ولا شعر من عائشة رضي الله عنها.
وهذه الرواية عن عروة تروى بوجه آخر مفصل يبين لنا أن عائشة كانت على ذكاء وافر وفطنة عجيبة، يقول عروة -وهو ابن أختها-: صحبت عائشة رضي الله عنها فما رأيت أحداً قط كان أعلم بآية أنزلت، ولا بفريضة، ولا بسنة، ولا بشعر ولا أروى له، ولا بيوم من أيام العرب، ولا بنسب، ولا بقضاء ولا طب منها.
فانظر! فقد كانت تعرف الأنساب، ولا غرو في ذلك؛ فهي ابنة نسابة قريش أبي بكر رضي الله عنه.
وكونها تعلم علم القرآن والسنة والفقه لا غرو في ذلك؛ فقد كانت زوجة المصطفى صلى الله عليه وسلم.
يقول عروة: قلت لها: يا خالة! الطب من أين علمتيه؟ أي: عرفنا أنك علمت الفقه والأحكام من الرسول عليه الصلاة والسلام، والنسب من أبي بكر، والشعر من حسان، لكن من أين لك هذا الطب؟ فقالت: كنت أمرض فينعت لي رسول الله صلى الله عليه وسلم الشيء لأتعالج به، ويمرض المريض فينعت له رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأسمع الناس ينعت بعضهم لبعض فأحفظه)، فكانت رضي الله عنها طبيبة قلوب وطبيبة أبدان، فهذا يدل على الفطنة، ويدل على أن عائشة لم تكن اهتماماتها اهتمامات سطحية كحال بعض نسائنا اليوم.
فإن بعض النساء اليوم عندها فطنة، وعندها ذكاء، وعندها سرعة حافظة، لكنها موجهة توجيهاً غير سليم، فتراها تمزج الموديلات للملابس بين هذا وهذا، وتحفظ ذاك، والأول والثاني، وتعرف أن هذا طراز قديم وهذا طراز حديث، بينما عائشة رضي الله عنها كانت لها أذن واعية وقلب مستقبل لكل ما فيه منفعة في هذه الدنيا وفي الدين على وجه الخصوص، ولذلك قال عروة: فلقد ذهب عامة علمها لم أسأل عنه.
وعروة هو ابن أختها، والذي كان ملازماً لها، والذي روى كثيراً من علمها، فلكثرة علمها وتشعبه يقول: إنها ماتت وتوفيت وذهب عامة علمها ولم يستطع أن يسألها عنه لكثرته، فمضى الزمان وانتهى عمرها قبل أن يأخذ علمها الغزير.
وكانت تحفظ الشعر وترويه كأحسن ما يروي الناس الشعر، ولا تنس أن هذا كله والنبي عليه الصلاة والسلام توفي عنها وهي ابنة ثماني عشرة سنة، واليوم ربما ابنة الثامنة عشرة لا هم لها إلا أن تحسن وجهها، وتنعم صوتها، وتتكسر في مشيتها، لا تعرف اهتماماً من أمور الدنيا ولا من أمور الدين، ولا تفكر في آخرة، ولا تحوز علماً، ولا تتأهل إلى تربية، ولا تتصدى لفتيا، ولا شيئاً من ذلك مطلقاً، وهذا يدلنا على البون الشاسع بين ما كانت عليه أزواج النبي عليه الصلاة والسلام ونساء المؤمنين وبين ما آل إليه الحال في نساء هذا الزمان إلا من رحم الله في عصرنا هذا، ولذلك ينبغي للمرأة أن تفطن لما يتعلق بتحصيل العلم، فقد كانت عائشة رضي الله عنها على هذا النحو الواسع من العلم.
وعن الشعبي أن عائشة رضي الله عنها قالت: (رويت للبيد نحواً من ألف بيت) وكان الشعبي يذكرها -أي: عائشة - فيتعجب من فقهها وعلمها، فإذا كان هذا العلم الذي تحفظه فما ظنك بالتربية العلمية والعملية التي تلقتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن هنا لجأ إليها الصحابة رضوان الله عليهم ونهلوا من علمها وأخذوا من فقهها كثيراً.
قال ابن سعد في الطبقات: كانت عائشة رضي الله عنها أعلم الناس، يسألها الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال أيضاً: ما كان أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام يشكون في شيء إلا سألوا عنه عائشة، فيجدون عندها من ذلك علماً.
بل قد صنف الزركشي كتاباً كاملاً سماه: "الإجابة فيما استدركته عائشة على الصحابة" أي: فيما استدركت عليهم من الأخطاء التي وقعوا فيها، أو الأقوال التي خالفتهم فيها بحجة ودليل من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن ذلك ما ورد في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما روى عمر رضي الله عنه عن رسول الله عليه الصلاة والسلام: (إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه) فقالت عائشة رضي الله عنها: (رحم الله ابن الخطاب، ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، وإنما قال: إن الكافر ليعذب ببكاء أهله عليه) وكانت تستدرك وتقول: (حسبكم كتاب الله (وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164]).
فكان عندها فقه عجيب، وبصر نافذ، وإحاطة شاملة بكثير مما أثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكما قال أبو سلمة بن عبد الرحمن: ما