أيها الإخوة المؤمنون! حديثنا موصول ونداؤنا مستمر: هيا بنا نؤمن، ولعلنا في وقفتنا الأخيرة هذه نكمل معاني بدأناها، ونزيد مقارنة مهمة توقفنا على ذلك الفيض الرباني والعطاء الإلهي الذي اختص به الله جل وعلا أهل الإيمان، وميزهم به عن غيرهم من أهل الجحود والنكران، ونذكر ما جعله الله سبحانه وتعالى من إشراق النفوس وطمأنينة القلوب لأهل الذكر والطاعة، وما كتبه كذلك من طمس البصيرة وقسوة القلب على أهل الغفلة والمعصية.
ونمضي مع الإيمان لنرى بجلاء ووضوح أن فيه جواباً لكل سؤال، وحلاً لكل مشكلة، وتذليلاً لكل صعب، وإنارة لكل ظلمة؛ فإن الله جل وعلا خلق الخلق ولم يتركهم هملاً، ولم يدعهم سدى، بل أتم عليهم نعمته بنور الإيمان وهدي الإسلام وتشريع الأحكام، وبيان ما بعد هذه الحياة الدنيا مما يترتب عليه الثواب والعقاب.
وهنا ومضة مهمة في أمر عظيم كبرت فيه الرزية وعظمت فيه البلية، ذلكم هو أمر خفاء الحق والتباسه بغيره من الباطل، وضلال الآراء وعدم وضوح الرؤية، وهذا أثر من آثار ضعف الإيمان وضعف الاستقاء من نبعه العذب الصافي، وضعف الاستنارة بنوره المشرق الوضاء.
إن الهداية في الأمور المختلف فيها أمرها عظيم، ومرجعها إلى الإيمان.
ونحن نعلم أن الأمر المهم لأمتنا هو الاجتماع لا الافتراق، والائتلاف لا الاختلاف، والتوحد لا التمزق، ولا يصلح شيء من ذلك إلا بعصمة الإيمان وهدى الرحمن سبحانه وتعالى، قال عز وجل: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} [البقرة:213]، هذه نعمة الله الابتدائية التي أراد الله عز وجل أن يخرج بها الناس من الظلمات إلى النور، ومن الضلالة إلى الهدى؛ فأنزل الكتب، وأرسل الرسل، ووضح جل وعلا للخلق طريق الحق وسبل الباطل، ثم وقع اختلاف الناس من بعد، قال سبحانه: {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [البقرة:213]، فماذا كانت نتيجة هذا الاختلاف في واقع الحياة في أمم سابقة وإلى يوم الناس هذا، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؟ كانت النتيجة هي كما أخبر الله عز وجل بقوله: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة:213].
إن الهداية لمعرفة الحق رغم وجود الشبهات وكثرة الشهوات مرجعها إلى الإيمان، والعصمة من ضلال الآراء واستبداد الأهواء إنما تكون بعصمة الإيمان.
ذلكم مبدأ مهم في واقعنا اليوم، فالأمة هي الجماعة على المقصد الواحد، كما ذكر ابن عطية في تفسيره، فلن نكون أمة إلا باجتماع وائتلاف له قاعدة راسخة وأساس متين ومعالم واضحة، تلكم هي معالم الإيمان في القرآن والسنة.