قال ابن حجر رحمة الله عليه في حديث: (ما خلأت القصواء وما هو لها بخلق): في هذا الحديث جواز الحكم على الشيء بما عرف من عادته، وإن جاز أن يطرأ عليه غيره، بمعنى: من كان عادته الإحسان فيحكم عليه بالإحسان، وإن طرأ عليه بعض الإساءة، يقول: فإذا وقع من شخص هفوة لا يعهد منه مثلها لا ينسب إليها، ويرد على من نسبه إليها، ويعذر من نسبه إليها ممن لا يعرف صورة حاله، فلولا خارق العادة لكان ما ظنه الصحابة صحيحاً، ولم يعاتبهم النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك لعذرهم في ظنهم، فوقف ابن حجر مع ناقة الرسول صلى الله عليه وسلم في قول الصحابة عنها: خلأت القصواء، ليستنبط أن الأمر المعتاد الشائع هو الذي يحكم به، ولا يلتفت إلى الخطأ اليسير، فيجعل هو الحكم المميز، وهذا مما يشهد لما قلنا في هذا الباب.
والأمثلة على ذلك كثيرة جداً نعرج على بعضها سريعاً: ترجم الذهبي لـ قتادة بن دعامة السدوسي فقال عنه: إنه كان يرى القدر، يعني: في بعض المسائل قدري، والقدرية -كما في حديث- مجوس الأمة، ثم قال الذهبي: ثم إن الكبير من أئمة العلم إذا كثر صوابه، وعلم تحريه للحق، واتسع علمه، وظهر ذكاؤه، وعرف صلاحه وورعه واتباعه؛ يغفر له زلله ولا نضلله ونطرحه وننسى محاسنه، نعم، ولا نقتدي به في بدعته وخطئه، ونرجو له التوبة من ذلك.
وأيضاً يقول حينما ترجم لـ محمد بن نصر المروزي: ولو أنا كلما أخطأ إمام في اجتهاده في آحاد المسائل خطأً مغفوراً له قمنا عليه، وبدعناه، وهجرناه؛ لما سلم معنا لا ابن نصر، ولا ابن منده، ولا من هو أكبر منهما، والله هو هادي الخلق إلى الحق، وهو أرحم الراحمين.
ثم ذكر ترجمة ابن خزيمة، وهو من أئمة أهل السنة والجماعة، وهو صاحب كتاب التوحيد الذي قرر به أكثر مسائل الصفات على مذهب أهل السنة والجماعة، ومع ذلك تأول قال الذهبي: وكتابه في التوحيد مجلد كبير، وقد تأول في ذلك حديث الصورة: (يخلق الله آدم على صورته) ثم قال بعد ذلك تعقيباً على هذا: فليعذر من تأول بعض الصفات، وأما السلف فما خاضوا في التأويل، بل آمنوا وكفوا، وفوضوا علم ذلك إلى الله ورسوله، ولو أن كل من أخطأ في اجتهاده -مع صحة إيمانه وتوخيه لاتباع الحق- أهدرناه وبدعناه؛ لقل من يسلم من الأئمة معنا، رحم الله الجميع بمنه وكرمه.
فهذه مسألة قد يكون الخطأ فيها ظاهراً، وقد يعتبرها الإنسان كبيرةً، لكنه قالها مع صحة إيمانه، وتوخيه لاتباع الحق، فيعذر، وأمثلة هذا الجانب بالذات على وجه الخصوص كثيرة، فإنه قد وقع من بعض أئمة العلماء من أهل السنة والجماعة تأويل في بعض المسائل، ويمكن أن ينظر ذلك في كتاب: المفسرون وموقفهم من التأويل والإثبات في آيات الصفات، فإن فيه أمثلة مطردة وواضحة في هذا الباب.
أبو حامد الغزالي رحمه الله ترجم له الذهبي، فذكر بعض إنصافه، بعد أن ذكر أخطاءه ومناقضته له ومخالفته له قال: قلت: الغزالي إمام كبير، وما من شرط العالم أنه لا يخطئ، وقال أيضاً: قلت: ما زال الأئمة يخالف بعضهم بعضاً، ويرد بعضهم على بعض، ولسنا ممن يذم العالم بالهوى والجهل.
وقال أيضاً: فرحم الله أبا حامد فأين مثله في علومه وفضائله، ولكن لا ندعي عصمته من الغلط والخطأ، ولا تقليده في الأصول، نعم؛ نخطئه فيما أخطأ، ولكن لا ننكر فضله، ولا نغير القول فيه.
وقد قال ابن تيمية عنه: وهذا الرجل -مع حسن قصده، ووفور ذكائه- لم يكن له حظ من السنن، فوقع في بعض الأخطاء.
والسبكي مع كونه من محبيه ومن المنتصرين له عقد في ترجمة الغزالي في طبقات الشافعية فصلاً طويلاً ذكر فيه كل الأحاديث الموضوعة التي في إحياء علوم الدين، مع كونه أثنى عليه، وبين كثيراً من محاسنه.