متى يقبل الجرح والتعديل؟ قد تتفق الشروط، وقد يكون المتكلم وهو من أصحاب الجرح والتعديل، فهل يقبل من كل أحد كل قول بلا استثناء أم أن هناك ضوابط لهذا الأمر؟ ومن دقة العلماء وحرصهم على تمييز الخطأ من الصواب حتى يدخل الحلال في الحرام وضعوا لذلك ضوابط فقالوا: يقبل التعديل من غير ذكر السبب، أما الجرح فلا يقبل إلا مفسراً، عندما تقول: فلان لا يصلح، لماذا لا تبين لنا؟ إن لم يكن هذا الجارح من الأئمة المعروفين بتقواهم وورعهم، وعلم الناس دقتهم في معرفة أسباب الجرح والتعديل، فلا يقبل هذا الجرح على الإبهام، فكونك تقول: فلان لا يصلح أو ليس فيه خير، أو في دينه شيء، ثم لا تبين لنا ما نستطيع به أن نصحح قولك أو نخطئك في قولك؛ لا يقبل منك، لماذا؟ قالوا: لأن الجرح يحصل بأمر واحد فلا يشق ذكره، لو كنت صاحب حق فبين علة هذا الجرح بكلمة ليست طويلة، أما التعديل فيقبل بدون ذكر سبب؛ لأنك إذا أردت أن تزكي إنساناً فتقول: يصلي الصبح ويصلي العصر ويتصدق، وتعدد كثيراً من المناقب، فهذا يشق، والجرح يكفي فيه أسباب معدودة، فلذا يلزم عندهم التفصيل والبيان، وقد ذكروا أمثلة لبعض الأمور التي تبين لنا أنه قد يجرح بما ليس فيه جرح، فمنها: أنه قيل لـ شعبة وهو أمير المؤمنين في الحديث، ومن أوائل من تكلموا في الجرح والتعديل: لم تركت حديث فلان؟ يستفسر منه سبب تركه لحديث راو، هذا القول! قال: رأيته يركض على برذون فتركته! فجعل هذا سبباً لأن يتركه، رآه يركض على البرذون يعني: أتى بأمر قد يعد من خوارم المروءة، ومما لا يليق؛ فتركته، قال الذهبي: ومن المعلوم أن هذا ليس بجرح موجب لتركه.
ومن الأمثلة أيضاً: أن شعبة أتى المنهال بن عمرو فسمع صوت الطنبور في بيته، وهذا مثال قد يتكرر عندنا؛ فتركه، فلم يقبل منه العلماء جرحه، وقالوا: قد يكون عمل بغير إذنه وهو ليس موجوداً، وهو مباشرة جعل هذه القضية من باب التورع، نعم تورع لنفسك، لكن هل يعد ذلك جرحاً مؤثراً؟
صلى الله عليه وسلم لا.
ومنها أنه سئل الحكم بن عتيبة: لم لم ترو عن زاذان؟ قال: كان كثير الكلام، فهذا كان عنده من أسباب الجرح.
ومنها أيضاً: أن جريراً رأى سماك بن حرب يبول قائماً فتركه، وقد ثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذهب إلى سباطة قوم فبال قائماً، وقد ذكر بعض العلماء أنه لعلة أو لعذر، والشاهد أنه أدخل هذا في أسباب الجرح، والتنبيه على مثل هذا كثير، قال الملا علي القاري: التجريح لا يقبل ما لم يبين وجهه، وقال ابن دقيق العيد بعد أن يوثق الراوي من جهة المزكين ثم يجرح جرحاً مبهماً غير مفسر، فمقتضى قواعد الأصول عند أهله أنه لا يقبل الجرح إلا مفسراً، ولكن نص علماء الحديث على أن الأئمة المنتصبين لهذا الشأن من المتقدمين -أي: إلى رأس المائة الثالثة- ينبغي أن يؤخذ كلامهم مسلماً؛ لأننا عرفنا علمهم واضطلاعهم واطلاعهم، واتصافهم بالإنصاف والديانة، مع الخبرة والنصح، وخاصة إذا توافقت آراؤهم في رجل، فلا شك أنا لا نحتاج إلى معرفة السبب، وبهذا قال كثير من الأئمة والعلماء.