من الذي يقبل جرحه وتعديله

من القواعد الخطيرة: من الذي نقبل جرحه وتعديله، ونقبل تقويمه وتصويبه، ونعتمد على توثيقه وتوهينه؟ هذه المسألة مما كثر الخلط فيها، وكلما نجم ناجم أو تحدث متحدث بجرح تلقفته الألسن دون معرفة بناقله أو بقائله، حتى نعرف من الذي يتأهل لأن يكون متكلماً في التقويم، وفي ذكر الأخطاء والإصابات، لذلك شرطوا في الجارح والمعدل شروطاً، ليس كل أحد له أن يخوض في هذا الجانب، ومعظم هذه الشروط من الشروط النفيسة الدقيقة الغالية التي لا تتوافر لكل أحد، قالوا: يشترط في الجارح والمعدل العلم والتقوى والورع، والصدق والتجنب عن التعصب، ومعرفة أسباب الجرح والتزكية.

إذاً: أولاً: العلم والتقوى والورع.

الثاني: الصدق والتجنب عن التعصب، حتى لا يخالط هذا المقصد الأول.

الثالث: معرفة أسباب الجرح والتزكية؛ لأنه إذا لم يعرف السبب الجارح فربما يجرح بما ليس بجارح كما سيأتي التمثيل له، ربما تجد إنساناً تسأله عن إنسان فيقول لك: لا يصلح بحال من الأحوال، لماذا؟ فتجده يذكر لك عيباً ليس من الكبائر، بل حتى لا يعد من الصغائر، بل ربما حتى يخرج عن دائرة السنن، وإنما هو من المتعارفات عند بعض الناس أو عند بعض أهل الخير من الناس، وهذا من أخطر المزالق، قالوا: ومن ليس كذلك لا يقبل منه الجرح والتزكية، يعني: لا يعتمد عليه؛ لذلك قال السبكي: من لا يكون عالماً بأسبابهما -يعني: أسباب الجرح والتعديل- لا يقبلان منه لا بإطلاق ولا بتقييد.

يعني: سواء قال: فلان لا يصلح، أو قال: لا يصلح لأنه كذا وكذا لا يقبل منه؛ لأنه ليس بعالم بالسبب الذي به يجرح أو يخطأ الإنسان.

وقال بدر الدين بن جماعة: من لا يكون عالماً بالأسباب لا يقبل منه جرح ولا تعديل لا بإطلاق ولا بتقييد.

وقال ابن حجر رحمة الله عليه: إن صدر الجرح من غير عارف بأسبابه لم يعتبر به.

يعني: كأنه لم يتكلم، وقال: تقبل التزكية من عارف بأسبابها لا من غير عارف، وينبغي ألا يقبل الجرح إلا من عدل متيقن، ولذلك ذكروا بعض التقويمات أو بعض الأمثلة، يقول الذهبي أيضاً مؤكداً على هذا الباب في تذكرة الحفاظ: حق على المحدث أن يتورع فيما يؤديه، وأن يسأل أهل المعرفة والورع ليعينوه على إيضاح مروياته، ولا سبيل إلى أن يصير العارف -أي: الذي يزكي نقلة الأخبار ويجرحهم- جهبذاً إلا بإدمان -وهذه عبارة جميلة جداً- الطلب، والفحص عن هذا الشأن -يعني: حتى يكون صاحب خبرة بمواطن الخطأ، وكيف يقوم- وكثرة المذاكرة والسهر، والتيقظ والفهم، مع التقوى والدين المتين والإنصاف، والتردد إلى العلماء، والإتقان، وإلا فلا تفعل -يعني: إذا ما أخذت بهذه الأسباب- فدع عنك الكتابة لست منها ولو سودت وجهك بالمداد ثم يكمل مؤكداً فيقول: فإن آنست من نفسك فهماً وصدقاً، وديناً وورعاً وإلا فلا تفعل، وإن غلب -انظر التتمة وهي أهم- عليك الهوى والعصبية لرأي ولمذهب فبالله لا تفعل، وإن عرفت أنك مخلط مخبط مهمل لحدود الله فأرحنا منك.

هذا كلام الذهبي في تذكرة الحفاظ، وهو كلام مهم ينبغي أن يتوقف عنده المقدم أو الداخل إلى هذا الأمر والمتكلم فيه.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015