انظر في المقابل إلى إعلان الطاعة أنه يقتضي إعلاناً لحرب المعصية، وأن إعلان الولاء لله يقتضي إعلان العداء للشيطان، فما إن ينصرف من عرفة حتى يرمي الجمار ليؤكد أنه لا سبيل للشيطان عليه بإذن الله، وأنه قد أعلن التوبة لله، وبدأ صفحة جديدة مع الله، فكلما عرضت له شهوة آثمة، وكلما عرضت له شبهة مشككة استعاذ بالله عز وجل من الشيطان الرجيم، ودحر هذا الشيطان الذي جاء في حديث مرسل عند الإمام مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما رؤي الشيطان يوماً هو فيه أصغر ولا أدحر ولا أحقر ولا أغيظ منه يوم عرفة، وما ذاك إلا لما يرى من تنزل الرحمة، وتجاوز الله سبحانه وتعالى عن الذنوب العظام، إلا ما كان من يوم بدر قيل: وما رأى يوم بدر؟ قال: رأى جبريل وهو يزع الملائكة)، نعم إنه يوم لله عز وجل ويوم على شياطين الإنس والجن التي تتربص بهذه الأمة الدوائر، إنه يوم إعلان وحدة الأمة الإسلامية، أفترون الناس في ذلك الصعيد وهم من أصقاع مختلفة، ومن أعراق متباينة ينطقون بلهجات ولغات مختلفة؟ أفلا ترون أنهم في شعار واحد، وفي مكان واحد، وعلى صعيد واحد، وبأعمال واحدة، ليس لهم إلا غاية واحدة تنطق بها جميع الألسنة، وتهفو بها جميع القلوب؟ إنها غاية رضوان الله عز وجل، إنه تحقيق الهدف الأسمى من وجود هذا الإنسان في هذه الحياة الدنيا: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، إنها العبودية لله، إنه الاستسلام لأمر الله، إنه الاستمساك بمنهج الله، إنه الرضا بقضاء الله، إنه أن يكون العبد لله وبالله ومن الله وعلى الله، إنه أن تكون لله عز وجل في كل حال وفي كل آن، وأن تبقى مشدود القلب بالله، وأن تبقى مرتبطاً بأحكام الله عز وجل، إن المعنى في هذا الصعيد عظيم، وإن الدلالات في هذا الموقف عديدة، إنه أمر تحتاج الأمة أن تتنبه إليه وقد كثرت بينها الشقاقات، وتعاظمت الخلافات، وكثرت النزاعات، ذلك أن القلوب لم تكن مخلصة لله عز وجل، وأن الغايات لم ترتبط برضوان الله عز وجل، وهنا يكثر البلاء، ويعظم العناء، ولا حل ولا نجاة إلا بالعودة لله عز وجل.