لعلنا في أول وقفاتنا نرى الصورة المثلى والقدوة العظمى صلى الله عليه وسلم، أعظم الخلق عبادة لربه، وأشدهم خشية منه، وأكثرهم ذكراً له، وأعظمهم تعلقاً به، وأكثرهم وسعياً إلى رضوانه، فأي شيء كان حاله، وكانت عبادته صلى الله عليه وسلم؟ ليس في رمضان ولا في عشره الأواخر بل في سائر الأيام والليالي.
ومع ذلك فلنا أن نتصور ونتدبر في حاله الذي وصف به في هذه الأيام والليالي الفاضلة، لعلنا ونحن نقف هذه الوقفات -التي نكاد نحفظها- ندرك تماماً أنه صلى الله عليه وسلم يعلمنا ويلقننا درساً عظيماً ينبغي ألا ننساه أبداً، وألا ننساه في هذه الأيام خصوصاً؛ فمن حديث عائشة رضي الله عنها في الصحيحين: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا دخلت العشر شد مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله)، وفي صحيح مسلم رواية أخرى تحتاج إلى مزيد تأمل: (كان صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره).
ونحن نعلم ما كان اجتهاده في غيره: كان يقوم حتى تتفطر قدماه، ولا يدع قيام الليل في سفر ولا حضر، ويذكر الله في كل أحواله، ويستغفر الله في يومه وليلته مائة مرة، وكان صلى الله عليه وسلم أعظم عباد الله عبادة له.
فكيف نتصور أنه كان يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره، أي اجتهاد فوق هذا الاجتهاد؟ وأي عبادة تزيد على هذه العبادة! إنها دروس عظيمة من سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، إنه يقول لنا: لابد من الزيادة، لأجل فضيلة هذا الشهر، وإدراك ختامه في هذه الليالي العشر، والتعرض لموافاة وموافقة ليلة القدر، ونيل عظيم الأجر بما هو أعظم من ألف شهر، أنريد ذلك ونحن نائمون غافلون وفي الأسواق لاهون وسائرون؟! أنريد ذلك ونحن ما نزال نتحدث بلغو القول وباطله؟! أنريد ذلك ونحن ما يزال ليلنا مع القنوات والأحجيات والألغاز؟! أنريد ذلك ونحن لا نزيد عما مضى في شهرنا بل ننقص منه؟! أنريد ذلك ونحن في كل طاعتنا وعبادتنا لا نبلغ عشر معشار ما كان عليه رسولنا صلى الله عليه وسلم؟! لعلي أترك لكم فرصة أن تتفكروا وتتدبروا كيف كان اجتهاده في هذه الأيام؟ وأي شيء يزيده على ما هو عليه من طاعة الله وعبادته؟ وهذا حديث الترمذي من رواية أم سلمة قالت: (لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم إذا بقي من رمضان عشرة أيام يدع أحداً من أهله يطيق القيام إلا أقامه).
وفي رواية الطبراني من حديث علي رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يوقظ أهله في العشر الأواخر من رمضان، وكل صغير وكبير يطيق الصلاة).
وفي رواية أنس في وصف حاله في العشر: (إذا دخلت طوى فراشه، واعتزل النساء)، إنه إعلان أنها أيام غير الأيام، وليالي ليست كالليالي، وزمان يخرج عن زمان الدنيا إلى الآخرة، ووقت يستقطع من لهو الحياة وغفلتها إلى ذكر الآخرة والتعلق بها، ووقت لا تنبغي فيه الشركة ولا يحسن فيه الاختلاط بحال من الأحوال، فما بالنا نزيد من الاختلاط والتخليط حتى تقل العبادة، وتعظم الغفلة، ويندر الذكر، ويعظم اللهو، نسأل الله عز وجل السلامة.