وأنتقل إلى صورة أخرى وهي صورة الأمة بمجموعها: فهناك الأراضي المغتصبة التي صحنا وانتفضنا وقت اغتصابها قليلاً، ثم نمنا وسكتنا بعدها كثيراً، حتى أصبحت اليوم تقاس بالأشبار، وتوزع بالأمتار، وتوضع على الطاولات، وتناقش في المؤتمرات، وتصبح جزءاً من المشروبات والوجبات.
ثم بعد ذلك من الأراضي المغتصبة إلى الثروات المنتهبة، إلى المقدسات المدنسة، إلى السياسات المرتهنة، إلى العمالات الدنيئة، إلى المحاربات الوضيعة، حتى إن بعض بلاد الإسلام لا تحرك ساكناً ولا تنبس ببنت شفة حتى تأخذ التعليمات من الأسياد، بل إنها قد تجاوزت ذلك، وأصبحت هي الأداة المنفذة التي تقوم بحرب الإسلام في عقر داره، والتي تمتهن حملة الإسلام ودعاته وعلمائه في بلادهم وديارهم، والتي تقوم بتدنيس المقدسات والمساجد وغيرها في نفس بلاد الإسلام والعرب، ثم بعد ذلك يمكن أن نقول مثل ما قال ذلك الرجل: أين ذهبت ثروتي؟ وكيف اعتدى عليها الأعداء؟ وكيف عرف اللصوص طريقها؟ فنحن الذين مهدنا، ونحن الذين أعددنا، ونحن الذين ساعدنا، بل نحن الذين نفذنا وفعلنا إلا من رحم الله.
ولعلي حينئذ -وأنا أصل إلى هذه النقطة- أجد أني رسمت صورة سوداء قاتمة، أو إن شئتم فهي صورة مخيفة مرعبة، وهل ذلك مقصد؟ إنه مقصد لأمر واحد فقط: نريد أن نشعر أنفسنا بأن الخطر حقيقي، وأن السرقات قد كثرت، وأن الثروات قد ضاعت، فإن لم نشعر بذلك فلن نغلق أبواباً، ولن نسد نوافذ، ولن نحكم احتياطاً، ولن نأتي بحراسة، ولن نقوم بشيء مهم لنا هو أساس حياتنا، إنه ديننا، إيماننا، إسلامنا.
ماذا كان العرب قبل الإيمان؟ وماذا كانت الجزيرة قبل الإسلام؟ وأي قوم كان أولئك؟ لا يعرف أحد لهم ذكراً، ولا يسطر لهم التاريخ في صفحاته سطراً، فما الذي جعلهم قادة الدنيا، وسادات العالم، ومعلمو البشرية؟ وما الذي جعلهم يأتلفون من شرق ومن غرب، ومن أسود وأبيض، ومن كل اللغات والثقافات؟ إنه دين الله، إنه الإسلام العظيم، إنه الإيمان واليقين، إنه لا قيمة لأمة لا دين لها، ولا قيمة لمجتمعات لا مبادئ لها، ولا قيمة لحضارة لا أخلاق لها، إن الذي يتخلى عن دينه، عن معتقده، عن أخلاقه، عن مبادئه؛ قد خسر الدنيا والآخرة، وذلك هو الخسران المبين.