فهذا أنس بن النضر رضي الله عنه وأرضاه يقول قبل المعركة، وهو الذي فاتته غزوة بدر، وفاته شرف تلك الغزوة العظيمة، يقول: لئن أشهدني الله عز وجل يوماً كيوم بدر ليرين ما أصنع؟ قسم عظيم يُبرز فيه هذا الصحابي الجليل أنه سيبذل وسيضحي وسيثبت ويقدم لهذا الدين ما تقر به أعين المسلمين، وما يرضى به عنه الله رب العالمين، يقول ذلك لا قولاً رخواً وهو متكئ على أريكته، ولا يقول ذلك وهو في مجلس اللهو واللعب؛ وإنما يقوله مقسماً بالله عز وجل في مواطن الجد والعز.
فلما جاءت المعركة وجاءت هذه الدائرة، مر أنس رضي الله عنه ببعض الأنصار وقد سرت شائعة قتل النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن تجمع حوله المشركون وحصل ما حصل، فمر أنس ببعض الأنصار وقد قعدوا على هامش المعركة، وسألهم: ما بكم؟ قالوا: أما شعرت أن محمداً صلى الله عليه وسلم قد مات؟ فقال كلمات تسجل في صحائف التاريخ، وتخلد في ذاكرة المسلمين، وتنقش في قلوبهم صوراً محفورة لا تنسى من صور الثبات والتضحية، ومعرفة المنهج، ووضوح الرؤية عند الصحابة رضوان اللهم عليهم، قال: فما تصنعون بالحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم! لئن مات النبي عليه الصلاة والسلام فما قيمة الحياة بعده؟ ولئن أهينت المقدسات، وانتهكت الأعراض، واعتدي على الدين فما قيمة الحياة؟ هل يبقى المسلم في هذه الحياة ليأكل وينكح مثل بقية الأنعام والدواب والهوام؟ إن المسلم أجل وأرفع من أن تكون هذه غاياته، إنه صاحب مهمة ورسالة يقدم حياته كلها لأجل رسالته وإعلاء رايتها؛ فإن أصيب في دينه أو في رسالته؛ فإنه لا يمكن أن يرضى بالذل في هذه الحياة، ولا يمكن أن يبقى ساكناً وادعاً، بل ينبغي أن يتحرق قلبه، وتتحرك جوارحه، وينطق لسانه، وتنطلق أقدامه، وتنفق أمواله، ولو اقتضى الأمر أن تبذل مهجته وروحه في سبيل الله عز وجل كما فعل الصحب الكرام رضوان الله عليهم، ونداء أنس رضي الله عنه ينادي كل المسلمين: قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم مضى أنس رضي الله عنه إلى ميدان المعركة، مضى إلى الغبار المثار، إلى السيوف التي تبرق في الضحى، إلى الأعناق التي تقطع، والدماء التي تسيل؛ فلقيه في أثناء مسيره سعد بن معاذ فقال له: إلى أين يا أبا عمرو؟! فسطر أنس رضي الله عنه أيضاً الجواب بكلمات عظيمة: واهاً لريح الجنة، والله إني لأجدها دون أحد.
قوم أيقنوا بما أخبر الله عز وجل به، واستيقنوا بما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم، وعلموا أن طريق مرضاة الله إنما تكون من طريق إعزاز دين الله عز وجل، ونصر عباد الله، وعدم رضى الذل لدين الله عز وجل.
واهاً لريح الجنة، والله إني لأجد ريحها دون أحد، ثم انطلق رضي الله عنه، قال سعد: فما استطعت أن أمضي مضيه، ولا أن أفري فريه، فمضى يقتل ويضرب حتى استشهد رضي الله عنه وفي جسمه بضع وثمانون ما بين ضربة سيف أو طعنة رمح أو موضع سهم، حتى ما عرف وجهه، وإنما عرفته أخت له ببنانة أو شامة.
لم يعرف من شدة ما أصابه من ضرب.
قال بعض الصحابة: فأحصيت ما به من ضربات فلم أجد في ظهره منها ضربة قط.
كان مقبلاً غير مدبر، ولم تأته الضربات من ظهره؛ لأنه لم يول ولم يهرب، وإنما كان مضحياً ثابتاً، ولذلك ضرب مثلاً عظيماً من أمثلة التضحية والثبات على دين الله عز وجل.