هناك مواقف أخرى تستغل كل شيء، وكل طاقة، وكل صغير وكبير، لتحشد الحشود، وتجيش الجيوش، وتوجه القوى ضد أمة الإسلام، دعا جبير بن مطعم رضي الله عنه وأرضاه -وكان على كفره وشركه آنذاك- دعا غلاماً له حبشياً يقال له: وحشي.
يقذف بحربة له قذف الحبشة قلما يخطئ، كان رامياً بالحراب شهيراً، وكان عبداً حبشياً حقيراً، وكان كماً مهملاً لا قيمة له، فجاء يستنهضه ويبعث همته ويعلي منزلته، ويعده بمستقبل زاهر ليسدد حربته إلى صدور أهل الإسلام، وليكون مع غيره ممن لهم سبق في عداء أمة الإسلام لينضم إليهم، فقال له: اخرج مع الناس، فإن قتلت حمزة عم محمد صلى الله عليه وسلم بعمي طعيمة بن عدي فأنت عتيق.
أي: يعتقه ويخرجه من الرق إلى الحرية، فخرج وحشي ليست له مهمة إلا قتل حمزة رضي الله عنه، وقتله وحشي رضي الله عنه وأرضاه، وكان ذلك من أعظم ما أثر في نفسه حتى هيأ الله له عملاً رأى أنه بإذن الله عز وجل يشفي غليله من ذلك الفعل الذي وقع عندما قتل بحربته مسيلمة الكذاب، ثم كان يقول: قتلت بحربتي هذه خير الناس وقتلت بها شر الناس.
يعني حمزة بن عبد المطلب لما كان وحشي كافراً وحمزة مسلماً، ويعني بعد ذلك مسيلمة الكذاب لما كان وحشي مسلماً مجاهداً ضد مسيلمة وقومه.
فهذا فرد واحد جيء به لتكون له مهمة واحدة وأمر محدد معين، المقصود أن يبلي في حرب الإسلام والمسلمين بلاءه، وأن يتحرك حركته بما يستطيع، وهكذا نرى هذه الصورة التي تدلنا على هذا التجييش والانتقاء للطاقات، ومعرفة كل إمكانية حتى توظف في اتجاهها الصحيح في حرب أمة الإسلام؛ لأن الذين كفروا لا يمكن أن يوادعوا، ولا أن يهادنوا، فضلاً عن أن يحبوا أو أن يناصروا، فضلاً عن أن يعينوا أو أن يوافقوا أمة الإسلام في شيء مطلقاً، قال تعالى: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء:89]، {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120]، حقائق القرآن تنطق، وآياته مخلدة إلى قيام الساعة تخبرنا بما علمنا الله عز وجل إياه من حقائق أهل الإيمان والكفر.