ثم انظروا إلى دور العلماء في عهد صلاح الدين لما جعل لهم مكانتهم البارزة، وجعل لهم قيادتهم الرائدة، وجعل لهم كلمتهم المسموعة، كتب القاضي الفاضل إلى صلاح الدين يقول له: لأن الله تعالى لا ينال ما عنده إلا بطاعته، ولا تفرج الشدائد إلا بالرجوع إليه، والامتثال لأمر شريعته -العالم يقول للقائد والأمير- والمعاصي في كل مكان بادية، والمظالم في كل موضع فاشية.
يعني: لابد أولاً أن تصلح هذا الجانب، وأن تصحح هذه الأوضاع الخاطئة.
ويقول في رسالة أخرى يشخص الداء الذي في الأمة قبل أن تواجه أعداءها: إنما أوتينا من قبل أنفسنا، ولو صدقنا لعجل الله لنا عواقب صدقنا، ولو فعلنا ما نقدر عليه من أمره لفعل لنا ما لا نقدر عليه إلا به، ثم يقول له: ولا نغتر بكثرة العساكر والأعوان، ولا فلان الذي يعتمد عليه أن يقاتل فلاناً، فكل هذه مشاغل، وليس بها النصر، وإنما النصر من عند الله، ولا نأمن أن يكلنا الله إليها والنصر به واللطف منه، وأستغفر الله تعالى من ذنوبنا، فلولا أنها تسد طريق دعائنا لكان جواب دعائنا قد نزل، وفيض دموع الخاشعين قد غسل.
هذه هي القيادة العلمية الراشدة الموجهة التي تكشف الخلل وتبين الخطأ، وتدعو إلى الإصلاح الذي فيه صلاح ما بين الأمة وخالقها سبحانه وتعالى.
ثم انظروا إلى روح الأمة في ذلك الوقت، المسلمون في عكا حوصروا حصاراً شديداً، لكن ما بلغ شدة الحصار من نفوسهم وعزائمهم، وكانوا يستنجدون بـ صلاح الدين ليفك عنهم الحصار، فكتبوا إليه يقولون له: إنا قد تبايعنا على الموت، ونحن لا نزال نقاتل حتى نقتل، ولا نسلم هذا البلد أحياء، فانظروا كيف تصنعون في شغل العدو عنا، ودفعه عن قتالنا، ثم المحاصرون هؤلاء المستضعفون يقولون لـ صلاح الدين: فهذه عزائمنا، وإياكم أن تخضعوا لهذا العدو، أو تلينوا له، فأما نحن فقد فات أمرنا، نحن قد بعنا أنفسنا لله، وتبايعنا على الجهاد، فلا تلينوا للعدو ولا تضعفوا أبداًَ.
ثم نجد هذه الصور واضحة جداً في قوة المسلمين، وترابطهم وارتباطهم بالله سبحانه وتعالى، من ذلك ما تشير إليه أيضاً وقائع التاريخ أن صلاح الدين كاتبه أحد ملوك النصارى عندما كان يحاصر عسقلان، فأراد هذا الملك أن يكتب صلحاً مع صلاح الدين قبل الشتاء حتى يرجع إلى بلده، فكتب كتاباً فيه أنه إذا لم يكتب الصلح في هذه الأيام القريبة وإلا فإنه سيضطر أن يشتي في هذه البلاد، وإذا أدركه الشتاء فلن يستطيع أن يتحرك وينتقل، فماذا كتب له صلاح الدين؟ كتب له كلاماً جميلاً ونفيساً، يقول: أما النزول عن عسقلان -يعني: ترك الحصار- فلا سبيل إليه، وأما تشتيته -يعني: بقاؤه وجنده في هذه البلاد في الشتاء- فلابد منه؛ لأنه قد استولى على هذه البلاد، ويعلم أنه متى غاب عنها أخذت بالضرورة، وإذا أقام إن شاء الله، -يعني: إن ذهب وإن بقي- سيأخذها المسلمون بإذن الله عز وجل، ثم يقول: وإذا سهل عليه أن يشتي هنا ويبعد عن أهله ووطنه مسيرة شهرين، وهو شاب في عنفوان شبابه، ووقت اقتناص لذاته، ما أسهل علي -يقول صلاح الدين - أن أشتي وأصيف وأنا وسط بلادي، وعندي أولادي وأهلي، وأنا أعتقد أني في أعظم العبادات، ولا أزال كذلك حتى ينزل الله سبحانه وتعالى نصره.
هذه روح الأمة ومواقفها في ذلك الوقت.
ولما كتب الله لهم النصر ما طغوا ولا بغوا ولا جحدوا نعمة الله عز وجل، ولا فسقوا ولا فجروا، بل صورت لنا كتب التاريخ والمراسلات في ذلك الوقت ما صنع المسلمون، وبأي شيء فرحوا، لم يفرحوا بالأموال، ولا بالبلاد، ولا بالديار، وإنما فرحوا بنصرة دين الله، وتطهير مساجد المسلمين من أوضار المسيحية والتثليث، فكتب القاضي الفاضل من مصر يهنئ صلاح الدين بحطين، ويخبره عن أهل مصر فيقول: والرءوس إلى الآن لم ترفع من سجودها، والدموع لم تمسح من خدودها؛ شكراً لله عز وجل، وكلما فكر -يعني: يقول هو عن نفسه- الخادم أن البيع -يعني: الكنائس- تعود مساجد، والمكان الذي كان يقال فيه: إن الله ثالث ثلاثة يقال فيه: إنه الإله الواحد، يعني: لا أعظم عندي من هذا الفرح، ولا أجمل منه، ولذلك لما كتب صلاح الدين يبشر أخاه بالنصر، قال له: وعاد الإسلام بإسلام بيت المقدس إلى تقديسه، ووضع بنيان التقوى إلى تأسيسه، وزال ناموس ناقوسه -زالت النصرانية- وبطل بنفس النصر قياس قسيسه، ودنا المسجد الأقصى للراكع والساجد، وامتلأ ذلك الفناء بالأتقياء الأماجد، وطنت أوطانه بقراءة القرآن، ورواية الحديث وذكر الدروس، وحديث هدي الهدى، وزارها شهر رمضان مضيفاً لها نهارها بالتسبيح، وليل فطرها بالتراويح.
وقال الخطيب القاضي زكي الدين في أول خطبة في يوم جمعة في المسجد الأقصى بعد فتحه وتحريره، قال مخاطباً صلاح الدين: جددتم الإسلام أيام القادسية، والملامح اليرموكية، والمنازلات الخيبرية، والهجمات الخالدية، فجزاكم الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، ثم قال لهم: فاقدروا هذه النعمة حق قدرها، وقوموا لله تعالى بواجب شكرها، فله المنة عليكم بتخصيصكم بهذه النعمة.
إذاً: رأينا كيف تحقق النصر عندما جاءت هذه الصورة بعد تهيئة أسبابها.