ننتقل إلى الوقت الذي جاء فيه نصر الله عز وجل، وكلنا يعلم أن النصر وتخليص بيت المقدس جاء بقدر الله على يد صلاح الدين، والناس كلهم يقولون: جاء صلاح الدين وانتصر يوم حطين، وخلص القدس من الصليبيين، وكأن المسألة انحصرت في تلك المعركة التي خاضها صلاح الدين رحمة الله عليه، والأمر ليس كذلك، فإن صلاح الدين خاض قبل هذه المعركة أربع معارك هي أشد وأشرس وأقوى، وهي من أعظم ما هيأ النصر لذلك اليوم العظيم في يوم حطين، لم يأت صلاح الدين هكذا ليجمع جيوشاً بالقوة، ثم ينتصر بعد ذلك، بل حارب في مواقع أربع قبل أن يلاقي النصارى في حطين، حارب الكيانات الفاسدة، وحارب الجهالات الخاطئة، وحارب الانحرافات المفسدة، وحارب الفرقة القاتلة، وسأذكر ذلك بشيء من الإيجاز.
حارب الكيانات الفاسدة التي كانت تعمل في الأمة من الفساد والتدمير أكثر مما يعمله أعداؤها؛ لأنها في حقيقة الأمر أعدى من الأعداء، وكان مما هيأ الله عز وجل لـ صلاح الدين وأجرى على يديه أن قوض الدولة الفاطمية العبيدية الرافضية التي أضاف إليها الذهبي في سير أعلام النبلاء وصف اليهودية فقال: الدولة الرافضية العبيدية اليهودية.
فقبل أن يتوجه إلى بيت المقدس أزال هذا الورم السرطاني الذي ظل يرزح على الأمة المسلمة وفي بلادها دهراً طويلاً، وعاث فيها فساداً في الاعتقاد، وتخريباً لمقدرات الأمة، وممالأة لأعدائها، فتوجه صلاح الدين رحمة الله عليه ومهد له من قبل نور الدين زنكي، فتوجه أولاً ليستأصل هذه الدولة الرافضية، وبالفعل قوض ملكها ودخل مصر فاتحاً، وألغى وجودها من التاريخ، وجعلها صفحات مذكورة في طيات التاريخ، ولم تقم لهم بحمد الله عز وجل قائمة في عهده وإلى سنوات طويلة بعده رحمة الله عليه، وسيأتي لنا آثار ذلك جلية واضحة، ثم ماذا؟ كان من أشهر أعمال صلاح الدين رحمة الله عليه أنه رأى في الأمة انحرافات سلوكية كثيرة، كانت الخمور والخمارات والفساد والانحراف مستشرياً يضعف في الأمة إيمانها، ويحقق فيها من أسباب البلاء ومن أسباب نزول سخط الله عز وجل، وارتفاع رحمته، وبعد نصره سبحانه وتعالى الشيء الكثير، فكان من جملة أعماله المباركة أن وجه جهوده للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولإزالة أسباب الفساد، فأغلق الحوانيت، ومنع شرب الخمور، وعاقب المخالفين، وطهر المجتمع المسلم من الإعلان بالحرب على الله عز وجل من خلال المجاهرة بالمعاصي، ولا يمكن أن تتوجه للعدو والسهام مغروسة في ظهرك من أثر هذه المعاصي التي ذكر ابن القيم رحمة الله عليه في فوائده أن آثارها الوخيمة ليست على مستوى الفرد فقط، بل على مستوى الأمة والكون كله، وقد ذكر كلاماً عجيباً، لولا ضيق الوقت والمقام لذكرت شيئاً منه.
طهر صلاح الدين هذا المجتمع المسلم من هذه الأوضار والمعاصي، وكانت معركة قوية هيأ بها الأمة لحصول النصر.
ثم كانت هناك جهالات خاطئة، وكان هناك ضعف في الناحية العلمية، وقلة في التعلق بعلم كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت هناك شطحات صوفية، وكانت هناك خرافات قد عشعشت في العقول وغير ذلك من الأمور، فجعل دأبه أن يقوي وينشط الحركة العلمية التي تقوي الأمة وتربطها بكتاب الله وبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتربطها بعلمائها وقادتها، ولذلك عمل عملاً كبيراً في تنشيط الحركة العلمية، وبنى المدارس التي كثير منها في بلاد الشام ومصر يعود إنشاؤه أو إحياؤه لـ صلاح الدين رحمة الله عليه، كالمدرسة الأشرفية والصالحية والعادلية وغيرها، فكثير منها قوي أثرها في عهد صلاح الدين، فنشر علم الكتاب والسنة، وربط الأمة بسلفها وبعلمائها، ووطد أركان هذا العلم في المجتمع، فكان ذلك أيضاً توطئة ومعركة خاضها رحمة الله عليه.
ثم سعى بعد ذلك إلى معركة الفرقة القاتلة، حيث كان المسلمون إمارات مختلفة، وبعضها متنازعة، وبعضها متناحرة، فسعى إلى ضم بعضها إلى بعض، فضم مصر إلى الشام، ثم أرسل أخاه إلى اليمن، وأخذ اليمن معه، ثم جمع كثيراً من بلاد المسلمين تحت راية واحدة، واجتمعت الكلمة عليه، وانضوى تحته الأمراء والقادة، فقدمت الأمة حينئذ أسباب النصر: صلة بالله عز وجل، وتحققاً بصدق الارتباط به، وصحة الاعتقاد فيه سبحانه وتعالى، ثم ارتباط بكتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، علماً ونشراً ودعوةً، ثم بتطهير المجتمع من المعاصي والمفاسد، ثم بتوحيد الأمة تحت راية واحدة، فلم تكن بعد ذلك حطين إلا تحصيل حاصل وختاماً لهذه الجهود التي قام بها صلاح الدين.
ولعلنا أيضاً نقف مع ومضات تاريخية نرى فيها هذه الصورة، كيف اجتمعت لـ صلاح الدين؟ وكيف كان حال الأمة في ذلك الوقت، بعد أن رأينا ومضات من حالها وقت سقوطها؟ الملك المظفر كان ملك حماة، وبنى النصارى حصناً إلى جوار دمشق، وبدأوا يناوشونه ويؤذونه، فكتب إليهم طالباً أن يهدموا هذا الحصن، فقالوا: نعم نهدمه، ولكن تدفع لنا أجرة بنائه، فدفع لهم مائة ألف، فطمعوا وزادوا، فكتب إلى صلاح الدين يستشيره.
إذاً: كان صلاح الدين مرجعاً لأولئك، فاستشاره في هذا الأمر، فماذا قال له صلاح الدين حتى نرى تأثيره رحمة الله عليه؟ يقول: إن هذا الرأي الذي قد أزمعت عليه ليس بشيء، وإن الله تعالى سيسألك عن إعطائهم هذا المال، كيف تعطي أعداء الله عز وجل المال وأنت قادر على المسير إليهم، والرأي أن تصرف هذا المال على الأجناد، وترغبهم في الجهاد، بدل أن تصرف المال لأعداء الله، فأعد العدة لذلك، وسر بعساكرك إليهم، والله تعالى في معونتك ونصرك.
ثم يصور لنا صلاح الدين وقد كاتب الأمراء والقواد ليحتشدوا لهذه المعركة (حطين)، فيقول في رسالة له إلى المظفر صاحب مصر في سنة (579هـ): وقد كاتبنا أمراء الأطراف باستعدادهم لاستدعائهم -أي: يستعدوا لنستدعيهم- وأن يحزموا في جميع العساكر أوامرهم لأمرائهم.
فماذا كانت النتيجة؟ يقول: فما منهم إلا من يسابق إلى تلبية النداء، ويسارع إلى إجابة الدعاء، ويعشق -ولا عشق لقاء الأحبة- لقاء الأعداء أكثر من عشقه لقاء الأحبة.
إذاً: قد سرت في الأمة روح جديدة لم تكن موجودة فيها وقت سقوطها؛ لأن سقوط بيت المقدس لم يكن لقوة النصارى، فقد جاء النصارى من أواسط آسيا، ووصلوا إلى بيت المقدس وقد هدت قواهم، وقد لاقوا بعض المجاعة في الطريق، وجاءوا في صورة مرهقة وكانوا متعبين، ولكن وجدوا من هم أتعب منهم، وأضعف منهم، فانتصروا عليهم تماماً، مثل الجدار المتداعي المتصدع إذا وضعت يدك عليه سقط، وليس ذلك من قوة يدك، ولكنه من ضعف ذلك الجدار، وما انتُصر على أمة الإسلام يوماً إلا لضعفها لا لقوة أعدائها مطلقاً، فهنا ذكر لنا صلاح الدين هذه الصورة في استجابة الأمة.