مجال آخر من المجالات المهمة التي قد يظن بعض الرجال والنساء أنها مقصورة على الرجال دون النساء، وهو مجال الدعوة، نحن نريد المرأة القدوة في مجال الدعوة؛ لأهميتها في هذا الجانب.
وهنا دوران أساسيان للمرأة في قضية الدعوة: الأول: هو دور المساعدة.
الثاني: هو دور الممارسة.
أما دور المساعدة فهو أن تكون ردءاً وعوناً وسنداً وإمداداً لزوجها عندما يمضي في شئون الدعوة، أو يذهب في الغزو والجهاد في سبيل الله، أو يسعى في أمور الخير لنصرة المسلمين وإغاثتهم، فلا تعترض عليه إذ ينفق المال في هذا الباب، ولا تعترض عليه إذ يغيب الوقت الطويل في خدمة الإسلام والمسلمين، بل تكون عوناً له وردءاً في هذا الجانب، فتكون حينئذ مثلاً رائعاً، وتقدم دوراً رائداً، وتكون عنصراً فاعلاً، وتكون قوة لدعم هذا الدين، وهي بهذا كأنما تمثل صفوف الإسناد عند التقاء الجيوش، فالجيوش لها متقدمة تقاوم وتدافع وتحارب، لكن وراء هذه الجيوش المتقدمة إمدادات من الأغذية والأطعمة والمعلومات وغير ذلك من الأسباب الأخرى، فلو لم يوجد هذا السبب وهذا الردء لما استطاعت المقدمة أن تقوم بهذا الدور، ولو أن كل رجل عالم أو داعية أو مجاهد أو ساع لخدمة المسلمين وإغاثتهم وجد امرأة تطلب منه أن يبقى في بيته وأن يقصر ماله عليها وعلى ولدها، وأن يكثر انشغاله وكل وقته وكل همه لمتاعها وزينتها لما وجدنا من المسلمين من يخرج في هذه الميادين، وأبرز وأعظم وأظهر مثال للمرأة المسلمة في هذا الشأن أم المؤمنين خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، تلك المرأة العظيمة التي كانت أعظم سند لرسول الله صلى الله عليه وسلم في أول أمره، انظر إلى هذا المثل في المراحل المتعددة التي كانت قبل الرسالة، وفي أول الرسالة حتى حفظ لها رسول الله صلى الله عليه وسلم قدرها وذكر فضلها، وما زال يكرر من وفائه لها وبره بها بعد موتها عليها رضوان الله سبحانه وتعالى.
هذه خديجة عندما كان النبي صلى الله عليه وسلم يخلو في غار حراء الليالي ذوات العدد يتفكر في هذا الكون يخلو بنفسه من تلك الجاهلية الظالمة المظلمة، ليخلص إلى الكون بصفائه ونقائه، ويسرح البصر والنظر متأملاً متفكراً، ويجعل القلب متدبراً متأملاً، كانت رضي الله عنها وأرضاها تعينه على ذلك وتعد له زاده وطعامه، وتشجعه وتساعده في هذا، ثم لما جاءت مرحلة أخرى ونزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصفة التي نعرفها ونعرف ما جاء فيها من حديث عنه عليه الصلاة والسلام، وجاء الدور الثاني بعد دور التشجيع والمساعدة وهو دور التثبيت والطمأنينة، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (دثروني دثروني.
زملوني زملوني وقال لها: (إني قد خشيت على نفسي.
فقالت: كلا والله لا يخزيك الله أبداً؛ إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتعين على نواب الخير) فهذه كلمات تدل على الإيمان والوعي، وعلى النصرة والتثبيت والطمأنينة، فإن الرجل إذا واجه الصعاب ووجد بعد ذلك امرأة مشفقة خائفة مضطربة فت ذلك في عضده، وانقطع ما كان من عزمه وجده، بينما لو وجد مثل المرأة المسلمة التي مثلتها خديجة رضي الله عنها لزاد ذلك في قوته قوة وفي عزمه عزماً بإذن الله عز وجل، ولم يقتصر دورها على ذلك التشجيع ولا هذا التثبيت، وإنما تحركت معه بحركة إيجابية فيها تأييد، فهناك تشجيع ثم تثبيت ثم تأييد عملي، فمضت به إلى ابن عمها ورقة بن نوفل لتخبره الخبر ولتستشيره في أمر ما وقع للرسول صلى الله عليه وسلم، فلما قص عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر قال: (هذا -والله- الناموس الذي كان يأتي موسى، ليتني أكون فيها جذعاً حين يخرجك قومك، فقال: عليه الصلاة والسلام أو مخرجي هم؟! قال: ما أتى رجل بمثل ما تأتي به إلا حاربه قومه -أي: نازعه قومه- ثم قال ورقة: إن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً) فكانت هذه حركة عملية من خديجة رضي الله عنها ثبتت رسول الله وشجعته وأيدته في مقتبل أمره وأول دعوته.
الجانب الثاني في الدعوة جانب الممارسة، ليس مجرد المساندة للرجل، بل ممارسة الدعوة في صفوف النساء، وفيما يعود على مجتمعهن بالفائدة والنفع، وهذا أمره مهم؛ لأن هناك جهلاً كثيراً بين صفوف النساء، ولأن هناك عادات غير حميدة قد سرت بين كثير من النساء، وطبائع من القيل والقال، ومن المنافسة في أمور الدنيا ونحو ذلك مما تضمنته كثير من وسائل الإعلام، أو مناهج التعليم، أو قصص الأدب، أو غير ذلك مما يحتاج معه إلى أن تمارس المرأة المتعلمة المتحرقة لخدمة الإسلام والمسلمين الدعوة في صفوف النساء.
ومثل عظيم من أمثلة الدعوة يذكره لنا ابن حجر في الإصابة في ترجمة أم شريك الأسدية القرشية، ذكر أنها أسلمت وبايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم كانت في الفترة المكية تدعو النساء إلى الإسلام سراً، وكانت تدخل على نساء قريش فتدعوهن وترغبهن في الإسلام، ما كان أحد من الرجال يستطيع أن يقوم بهذا الدور في ذلك الوقت، لكن المرأة بطبيعتها تستطيع أن تزور تلك المرأة وتلك المرأة، فكانت تستغل طبيعتها النسوية وتدخل لتغزو كفار قريش في عقر دارهم، قد كان كفار قريش يأخذون المسلمين من الرجال ويعذبونهم ليصدوهم عن الدين، فإذا بالغزو يأتيهم من وسط بيوتهم ومن بين نسائهم، قال ابن حجر رحمه الله: كانت أم شريك تدعوهن وترغبهن في الإسلام حتى ظهر الإسلام في النساء وبلغ شأن دعوتها قريشاً.
فإذا ببيوتهم تتزعزع من الداخل، وإذا بالإسلام الذي يحاربونه في الخارج يرفع بأيدي نسائهم وعلى ألسنتهن، حينها قال كفار قريش: والله لولا قومك لفعلنا بك كذا وكذا.
قالت: فحملوني على بعير ليس عليه شيء، ثم جعلوني ثلاثة أيام بلا طعام ولا شراب.
حتى بلغ بها من الإعياء والشدة مبلغاً عظيماً، حتى إنها صارت لا تسمع ولا تميز، قالت: فأخذوني فأنزلوني منزلاً فأوثقوني في الشمس، واستظلوا تحت الشجر وناموا.
وقد بلغ بها الأمر ما بلغ وهي صابرة محتسبة، قالت: فإذا أنا بأبرد شيء على صدري دلو من ماء من الله عز وجل.
قالت: فشربت منه حتى رويت، ثم شربت حتى رويت، ثم شربت حتى رويت ثم صببت منه على بدني، فلما استيقظوا رأوا الماء فقالوا: حللت وثاقك وشربت من سقائنا! قالت: ما فعلت من ذلك شيئاً.
قالوا: إن كان قولك حقاً فإن دينك دين خير، فذهبوا إلى أسقيتهم فوجدوها معصوبة لم يفكها أحد فأطلقوا سراحها.
وذكر ابن حجر أنها هي المرأة التي وهبت نفسها للنبي عليه الصلاة والسلام، ونزلت الآيات في سورة الأحزاب في هذا الشأن، فانظر إلى هذا المثل، ولتنظر المرأة المسلمة إلى هذه المرأة الداعية التي استولى الإيمان على قلبها رغم سرية الدعوة وصعوبة الجهر بالإسلام، لقد كانت تغزو الجيوش وتغزو النساء، وتستميل القلوب إلى هذا الدين.
وهذه أم سليم مثل عظيم آخر، تبين لنا فيه كيف ينبغي أن تؤثر المرأة الدعوة إلى الله وإلى الإسلام على كل شيء، فلما جاء أبو طلحة يخطبها ويريد نكاحها قالت قولاً حكيماً يدل على رجاحة عقل، كما يدل على بعد نظر وحرص على مصلحة الإسلام، قالت: إنك رجل كفؤ وما مثلك يرد -هذا نوع من الجزل والترغيب والاستمالة-، ولكنك رجل كافر وأنا مسلمة، فإن أسلمت فإن إسلامك مهري لا أبغي بعده شيئاً.
فقال أبو طلحة الراغب فيها: وكيف لي بذلك؟ قالت: لك به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فلما أقبلت قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (هذا أبو طلحة غرة الإسلام بين عينيه) فجاء وأسلم فكان مهرها إسلامه رضي الله عنها وأرضاها، فانظر إلى رجاحة العقل حيث قدمت مصلحة الإسلام، وكيف حملت هم الدعوة إلى الله عز وجل.
وفي بعض الروايات أنها قالت له: ما مهري عندك يا أبا طلحة؟ قال: مهرك الصفراء والبيضاء -أي: الذهب والفضة-.
قالت: ما أريد صفراء ولا بيضاء، ولكن إن أسلمت كان إسلامك مهري.
فآثرت إسلامه ودعوته إلى الإسلام على حظ نفسها وعلى متاع الدنيا.
ومثل آخر يرويه لنا بعض الصحابة رضوان الله عليهم في شأن إحدى النساء المسلمات المؤمنات، فقد روي عمران بن حصين رضي الله عنه أن الصحابة كانوا في مسيرهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ بهم العطش مبلغاً، وإذا بهم بامرأة على حمار لها معها مزادتان من ماء، فاستسقاها رسول الله صلى الله عليه وسلم فسقته، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم فبارك الله في الماء فشربوا منه، وبقي ماؤها، فنظرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت: إنك رجل خير.
ثم أسرت الإسلام في نفسها ورضيت باتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكتمت إسلامها، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحفظ لها صنيعها ويشكر مساعدتها للمسلمين وحسن معاملتها لهم، فكانت الحملات والغزوات والسرايا تغزو هنا وهناك، لكنها بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم تجتنب قوم تلك المرأة، كان النبي يوصي أصحابه في السرايا أن لا يغيروا وأن لا يغزو ذلك الحي الذي كانت منه تلك المرأة، فماذا صنعت هذه المرأة الحصيفة اللبيبة؟ قالت لقومها: هاتوا ما عندكم؟ فجمعوا لها من الطعام والتمر حتى أتت أهلها، ثم قالت لهم: أتيت من عند أسحر الناس أم أهو نبي كما زعموا؟ فقصت لهم خبر المزادتين، ثم إن تلك المرأة أسلمت وأسلم قومها، وفي بعض الروايات أنها قالت لهم: أترون أن القوم تاركوكم لا لشيء، فإنما تركوكم لأجل هذا الأمر.
أي: لأجل قصتها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقالت يوماً لقومها كما في رواية أخرى: ما أرى هؤلاء القوم تركوكم عمداً، هل لكم في الإسلام؟ فأطاعوها فدخلوا في الإسلام، فانظر إلى امرأة دخل قومها الإسلام بدعوتها ليس النساء فقط وإنما الرجال والنساء، وحديثها في الصحيحين.
فهذه أمثلة، وغيرها كثير أيضاً من نماذج نساء المؤمنين التي تبين هذا المجال المهم من المج