نمضي في جولة مع الصبي الورع، إذ كان رحمة الله عليه صفحةً بيضاء مشرقة، كتب الله له أن يكون على حظ وافر من النجابة والذكاء، ومن العلم والفطنة ومن الصفاء والطهارة منذ نعومة أظفاره؛ فهذه الروايات في ترجمته تذكر أنه كان في الكتاب كما يروي أبو عفيف أحد أقرانه يقول: كان معنا في الكُتّاب وهو غليم نعرف فضله، وكان الناس الرجال والنساء تأتيهم الكتابات والمراسلات ممن لا يعرفون الكتابة ربما أرسلوا إلى المعلم يقولون له: ابعث لنا أحمد بن حنبل حتى يكتب لنا، فكان يبعث لهم بـ أحمد بن حنبل وكان يذهب إليهم وهو مطأطئ الرأس من حيائه وغض بصره مع كونه صبياً صغيراً، فيكتب جواب كتبهم! فربما أملوا عليه الشيء من المنكر فلا يكتبه لهم، فهذا وهو صغير يأبى أن يكتب ما فيه منكر، بل كان يعف ويتورع عن ذلك.
وكان إبراهيم بن شماس يقول: كنت أعرف أحمد بن حنبل وهو غلام صغير وهو يحيي الليل منذ نعومة أظفاره.
ومن القصص المؤثرة والدالة على حسن سمته وعظيم رعاية الله له سبحانه وتعالى ما ذكره داود بن بسطام حيث يقول: أبطأت علي أخبار بغداد أي: الأخبار والأحوال التي كانوا يتناقلونها ويكتبونها عبر البريد إلى الولايات وإلى المسئولين أو إلى الخليفة، قال: فوجهت إلى عم أبي عبد الله أحمد بن حنبل؛ لأن عمه هو الذي كان يبعث بالأخبار.
فقلت له: لم تصل إلينا الأخبار اليوم وكنت أريد أن أحررها وأوصلها إلى الخليفة، فقال لي: قد بعثت بها مع ابن أخي أحمد؛ ثم بحث عن أحمد وجاء به وقال له: أليس قد بعثت معك بالأخبار؟ قال: نعم، قال: فلأي شيء لم توصلها؟ قال: أنا أرفع هذه الأخبار قد رميت بها في الماء؛ لأن فيها من المنكر ومن الظلم فلا أرفع مثل تلك الأخبار.
رمى بها في الماء ولم ينتظر مشاورة ولا مراجعة، إنه يتورع وهو في سن الطفولة، قال ابن بسطام: هذا غلام يتورع فكيف نحن؟! فهذه القصة تدلنا على عظيم أثر التربية في الصغر، مع أنا نعلم أن الإمام أحمد ولد في بغداد سنة (164هـ) ومات والده وهو صغير ابن ثلاث سنوات، لكنه تربى تربية إيمانية صبغته بهذا النهج القوي منذ صغره.
وكما ذكر أبو بكر بن الأثرم قال: أخبرني من كان يطلب الحديث مع أحمد بن حنبل قال: ما زال أبو عبد الله بائناً من أصحابه؛ منذ صغره وهو متميز، وهذه الوقفة تدلنا على ما للتربية الإيمانية في الصغر من أثر ومن استقرار، وإذا ربي الصغير على هذه المعاني الإيمانية فإنها تصبح ملكةً ذاتية وطبيعةً نفسية وسلوكاً دائماً لا يخشى عليه بإذن الله أن يتغير؛ لأنه كما قيل: العلم في الصغر كالنقش في الحجر، ومن شب على شيء شاب عليه.
فلذلك الإسلام أمر بتربية الصغير والعناية به من الصغر؛ لما لذلك من أثر في استقرار الكلمات والأفعال والصور في ذهن الصغير وإن لم يكن عاقلاً مدركاً، فإن من السنن عندما يستهل الوليد صارخاً أن يؤذن في أذنه اليمنى وأن يقام في أذنه الأخرى؛ حتى يكون أول شيء يسمعه في هذه الدنيا شهادة التوحيد والدعوة إلى الصلاة والفلاح، ثم يحنك، ثم تكون هناك من الأمور والدلائل في التربية ما يدل على أثرها وإن لم يكن الصغير يعقل معناها، كأن لا يكذب عليه كذبة -كما يقولون- صغيرة أو بيضاء أو نحو ذلك.