(وإياك والغضب والقلق والضجر!) أي: وإياك والغضب والقلق والضجر! فكل هذا منقصة في عدالة القاضي، وليس الغضب مخلاً بالعدالة، والأمور الغريزية والجبلية لا يقوى الإنسان على دفعها، ولما جاء الرجل وسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يوصيه فقال له: (لا تغضب)، هل معنى هذا أن تنزع غريزة الغضب من ذهنك وأعصابك؟ لا، فإنك تغضب غصباً عنك، ولكن النهي ليس منصباً على ذات الغضب، ولكنه منصب على نتائج الغضب؛ لأن الغضبان يبطش، ويسب، ويؤذي ويتعدى، فلأجل هذا منع القاضي من أن يقضي وهو غضبان، وسيأتي الحديث بعد هذا في هذا الموضوع.
(والضجر) إذا جاء خصم وصاح عليك، ومن الناس من يدخل المحكمة في خصومة تافهة، ولا يريد القضاء بها بقدر ما يريد أن يثير القاضي ويغضبه ليتكلم عليه، أي: أن بعض الناس قد يتعمد إثارة القاضي، والقاضي العاقل إذا عرف مراد هذا الخصم يمكنه من ذلك ولا يفوت عليه، ما لم يخل بحرمة مجلس القضاء، فإذا أخل بحرمة مجلس القضاء فللقاضي الحكم ابتداءً بسجنه إلى ثلاثة أيام، لأنه انتهك حرمة مجلس القضاء، ولا أحد يسأله عن ذلك.
إذاً: لا تضجر من الخصوم؛ لأنك إذا كنت في حالة الضجر هل تفهم ما يقال لك؟! وإذا كنت في حالة الغضب هل تفهم فهماً كاملاً ما يلقى إليك؟! ولكن الغضب درجات، الطفل الصغير يغضب، والرجل يغضب، والمرأة تغضب، والحيوان يغضب، والقاضي إذا لم يكن عنده استعداد للغضب لا يصلح قاضياً؛ لأنه تنتهك عنده حرمات الله، أو يرى انتهاك حرمات الله في الدعوى ولا يغضب لها! لكن إذا غضب فليجعل الغضب في فعله ولا يجعله في لسانه ولا في عقله، ولهذا كنت أقول في مذكرة القضاء: على القاضي أن يجعل نفسه في فانوس من زجاج، يرى ويسمع، ولا يتعدى الفانوس الذي هو فيه، لكنه في زجاج يستطيع أن يرى أحوال الخصوم ويسمعها.
لكن إذا كان الغضب مطبقاً، فلا يحق للحاكم أن يحكم في وقته، والغضب المطبق هو الذي يبحثونه في باب الطلاق، ومثاله أن يقول: أنا كنت غضبان، وتكلمت وما شعرت، هذه هي محل الدعوى.
والأدباء يقسمون الغضب إلى أقسام: غضب أسود، وغضب أحمر، وغضب أخضر، وهذه اصطلاحات! فالغضب الأسود الذي يسيطر على الغضبان بحيث لا يرى أمامه شيئاً، ولا يفرق بين رجل وامرأة، ويتكلم بمقتضى الغضب وهو لا يدري ما يقول، والأحمر دون ذلك بقليل، والأخضر يكون في الأمور العادية، مثاله: أن تكون ماشياً في الطريق ورأيت رجلاً يضرب ولده، فأنت تتأذى وتغضب، لكن لا تملك شيئاً فهذا أب وهذا ابنه، وكما تغضب إذا لم يقدم لك الطعام على العادة المعلومة.
إذاً: الغضب المنهي عنه هو الذي يأخذ على الإنسان عقله ويصرفه عن مراده؛ لأنه في هذه الحال لا يدري ماذا يقول، ولا يعقل ما يحكم به.