(المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلوداً في حد).
والأصل في المسلم العدالة ما لم يجرح، فلو جاءنا شاهد مسلم لا نعرف ماضيه ولا حاضره وقال: أنا رجل مسلم وأشهد بأني سمعت أو رأيت كذا وجب على القاضي أن يسمع شهادته، حملاً على البراءة الأصلية (عدول بعضهم على بعض).
أما إذا كان يعلم فيه شيء، أو طعن الخصم فيه بشيء، فعلى القاضي أن يسمع الطعن، فإن كان طعناً يجرح في عدالته قال: ائتني بشاهد آخر، ولا ينبغي أن يقول: اذهب فشهادتك غير مقبولة، وإنما يقول لمن طعن فيه: ائتني بشاهد آخر.
(إلا مجلوداً في حد): هنا استثناء، فممن لا تصح شهادته المجلود في حد إذا ثبت عليه حد ونفذ؛ لأنه قد يدعى عليه بحد ولا يثبت، وقد يدرأ الحد بالشبهة، لكن إذا ادعي عليه الحد وثبت عند القاضي، وأقيم عليه الحد، فحينئذ ترد شهادته.
(أو مجرباً عليه زور): أي: إذا عرف في اليوم الفلاني أو في السنة الفلانية أنه شهد زوراً وشهر به، فيبقى أنه شهد زوراً وشهر به، فلا تقبل شهادته.
(أو ظنيناً في ولاءٍ أو نسب): أي: عتق ولكن ولاؤه مظنون فيه، كذلك إذا كان مظنوناً في نسبه إلى أبيه، فلا تقبل شهادته؛ لأن الشاهد حين يشهد، يترتب على شهادته إثبات الحق على المدعى عليه.
فالشاهد له ولاية على المدعى عليه، ولا ينبغي أن يكون لمظنون النسب ولاية على إنسان غير مظنون؛ لأنه ليس من أهل الولاية.
(أو نسب أو قرابة).
فلا تصح شهادة القريب لقريبه، ولكن أي القرابة؟ جميع الحاضرين توجد قرابة بينهم، كما قال الأعرابي لـ معاوية: سألتك بالرحم التي بيني وبينك إلا أعطيتني، قال: ومن أنت يا أخا العرب حتى أعرف هذه الرحم؟ قال: أنسيت؟ قال: لا بأس ذكرني، قال: الرحم التي بيني وبينك في آدم وحواء.
فقال: والله صحيح! هذه رحم لا يمكن لأحد أن يجحدها، وهذه رحم تستحق الصلة، فأخذ وكتب له بدرهم، فأخذ الخطاب إلى بيت المال وقال له: خذ هذا عطاء معاوية، فتأمل! أنت متأكد، قال له: نعم، فقام وأعطى له درهماً، فوضع الدرهم وقال: ما هذا؟ قال: هذا ما كتب لك في خطابك؛ إن كان لك اعتراض فارجع إليه، فرجع إلى معاوية وقال: ما هذا يا معاوية؟! تصل رحم آدم وحواء بدرهم! قال: والله يا أخا العرب لو أني وصلت هذه الرحم مع كل الموجودين ما بقي في بيت المال درهم.
فهنا القرابة ثلاث درجات: قرابة ذوي رحم من ذوي الميراث، وقرابة ذوي رحم ليسوا من ذوي الميراث، كابن خالته وابن خاله وخاله وخالته، فليسوا من أهل الميراث ولكن الرحم موجودة، لكن أخوه وعمه وابن أخيه وابن عمه هذه الرحم موجودة، والميراث موجود عصبة.
وقرابة ليست ذات رحم ولكنها أخوة الإسلام، فعندما نتفق معه في الجد العاشر، أو يكون هذا من قبيلة وهذا من قبيلة وليس بينهما اشتراك في ولادة ولا في شيء؛ فهذه -كما يقولون- أخوة في الدرجة النهائية.
إذاً: ما هي القرابة التي تمنع الشاهد أن يشهد؟ قالوا: كل قريب كانت في شهادته مظنة نفع للشاهد عن طريق المشهود له، فالزوج إذا شهد لزوجته فأين سيذهب المحكوم به؟ الولد لأبيه، والأب لولده، هل يشهد له؟ هناك من يقول: يشهد عليه ولا يشهد له، لكن الكل مرفوض؛ لأنه مظنة أن يجر النفع إليه.
إذاً: القريب الذي هو في الدرجة الأولى أو الدرجة الثانية من ذوي الرحم لا يرث؛ فهؤلاء لا تصح شهادتهم للإنسان، وكذلك لا يحق للقاضي أن يقضي بين اثنين أحدهما من هذه الطبقة في القرابة، فلا يقضي لأبيه ولا لولده ولا لزوجه.
والأخ مختلف فيه، فحينئذ القرابة مظنة جر النفع للمشهود له، فتمنع قبول شهادته.
(فإن الله تعالى تولى منكم السرائر) هنا يجب أن يسمع القاضي الظاهر من الكلام، فإن الله تعالى تولى منكم معشر القضاة السرائر، لأن السرائر لا يعلمها الخصوم، ولا يعلمها عامة الناس.
إذاً: من الرقيب على القاضي؟ الله، ولهذا يقول أهل العلم: القضاء مستقل لا سلطة لأحد في الدولة على القاضي، ولا لرئيس الدولة ملكاً كان أو رئيساً، فلا يحق له أن يتدخل في الحكم، ولا أن يملي رأيه في توجيهه وإلا بطل الحكم، فإن الله تولى منكم السرائر فليتق الله معشر القضاة؛ لأن الرقيب عليهم والمحاسب لهم إنما هو الله، وكما يقولون: لا واسطة بين القاضي وربه.