ففي الحديبية لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يتحللوا وأن ينحروا هديهم، فلم يقم أحد، فدخل على أم سلمة مغضباً، فقال: (يا أم سلمة: ما شأن الناس؟ قالت: يا رسول الله! قد دخلهم ما قد رأيت، فلا تكلمن منهم إنساناً، واعمد إلى هديك حيث كان فانحره واحلق، فلو قد فعلت ذلك فعل الناس ذلك)، لأنهم خرجوا لا يظنون إلا أنهم آتون البيت، وما صدر في فكرهم أن يمنعوا منه، فهم متحمسون، وينتظرون فرجاً من الله بأن يهيئ لهم دخول مكة وإتمام عمرتهم.
وقالت له: اخرج عليهم ولا تكلمن أحداً منهم؛ لأن النفوس مشحونة ليس فيها سعة لتتحمل شيئاً، وأصبح الآن القدوة الفعلية أولى من الكلام والبلاغة والخطابة، واعمد إلى هديك فانحره، وادع الحلاق يحلق لك، والزم خيمتك.
نحن هناك نجد عمر حينما أعلن النبي صلى الله عليه وسلم بالتحلل وبنحر الهدي وقف وقال: ألسنا على الحق وهم على الباطل؟ فعلام نعطي الدنية في ديننا؟ فـ عمر يريد أن ينهي القضية بالسيف كأصحاب بلقيس: {نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ} [النمل:33]، بينما أم سلمة رضي الله تعالى عنها ليست من أهل القوة والسيف، ولكن من أهل الفطنة وبعد النظر والتريث، فحلت القضية بالحكمة؛ فما أن رأى المسلمون رسول الله صلى الله عليه وسلم نحر هديه وحلق شعره إلا تبادر الجميع وتسابقوا إلى الحلق والنحر، وانتهت القضية.
ونجد التطبيق العملي في تاريخ المسلمين منذ أن أعلن النبي صلى الله عليه وسلم رسالته، وبلغ وحي الله، ومدة مكثه في مكة، وعند مجيئه إلى المدينة، وفي زمن الخلفاء الراشدين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، ومن تبعهم، إلى أن جاءت الخلافة العثمانية، لم نجد خلال هذه المدة الطويلة أن امرأة تولت القضاء أبداً.
إذاً: حينئذ لا ينبغي أن نجعل تولية المرأة القضاء قضية، ونناقش فيها، ونأتي بأدلة من هنا أو هناك، ونجرح من يقول بولايتها لا وكلا، ويهمني تصحيح المفهوم عن الأحناف أنهم يجيزون ولايتها بالإطلاق، ولكن التحقيق عندهم أنهم لا يجيزونها إلا عند الضرورة.
والله تعالى أعلم.