ندرة صلاح المرأة للتدبير

ومن أعجب ما قرأت أن الزبّاء وكانت ملكة بعد أن آل إليها حكم زوجها، وكان جذيمة ينافس زوجها فخافت منه، فأرادت أن تحتال عليه لتقتله لتأمن غيلته، فكتبت إليه، ومما قالت: إن تنصيب المرأة ملكة ثقيل في الأسماع -تتظاهر بعدم رضاها عن توليتها الملك- وضعف في السلطان، يطمع فيها الخصوم، فأت إلي لنتفق معاً ويتم الزواج وأكون بك قوية، فاستشار جذيمة أصحابه، فأشاروا عليه بذلك إلا رجلاً يسمى قصير، قال: لا أرى ذلك إلا خدعة، فلو كانت صادقة فلتأت هي إلى آخر أمرها، وذهب برجاله، فقال له قصير: إذا رأيت الخيل مشت أمامك فاعلم بأنها صادقة، وإذا رأيت الخيل قد أحاطت بك فاحذر.

وكان لـ جذيمة فرس لا تدرك، فقال له قصير: فإن رأيت الغدر فاركب فرسك وانج بنفسك، فلما ساروا معه في الطريق وكان قصير معه، لقيتهم خيل الزبّاء وأحاطت به، فنبهه قصير فأبى، فحالاً بادر قصير وركب فرس الملك ونجا بنفسه، ثم لما دخل جذيمة عليها وجد المكيدة مدبرة وقُتل، وكان له أخ أو ابن أخ يدعى عمرو، فقال له قصير: قم واثأر لأخيك، قال عمرو: وكيف ذلك؟ قال قصير: اجدع أنفي واكسر ظهري، ففعل، فرجع إليها يبكي، فقالت له: ما بالك؟ قال: إن عمراً اتهمني أنني مالأتك على أخيه فقتلتيه، فلم أجد لي مهرباً إلا عندك، وأخذ يتقرب منها إلى أن وثقت به، إلى أن دبر المكيدة لقتلها الذي يهمنا: أنها كتبت إليه وقالت: إن تملك المرأة ثقيل في السمع ضعف في السلطان، فإذا كان هذا اعتراف ملكة بوضع المرأة في الولاية، فنحن لسنا في حاجة إلى ذلك، ولكن نقول: إن الذين ناصروا جانب تولية المرأة استشهدوا بهذه وبغيرها، وقالوا: بلقيس كانت ملكة سبأ، كيلو بترا كانت ملكة مصر، وملكة بريطانيا، وملكة إيطاليا، وملكة فرنسا، كلهن نساء، فكيف نوفق بين ذلك وبين هذا الحديث: (لن يفلح قوم) وهؤلاء نسوة قد تملكن في بلادهن، وسارت بلادهن على ما يرام؟ والجواب عن ذلك: أننا لو قرأنا تاريخ تلك النسوة في ملكهن، لوجدناهن جميعاً قد قتلن، واضطرب الملك تحت أيديهن، ولم تفلح دولة تحت ولاية امرأة خلفت زوجها أو أباها أو أخاها.

ولا يهمنا تاريخ تملك النساء، ونتائج ذلك، ومن أراد التوسع في هذا فليرجع إلى كتاب: الدر المنثور في أخبار صاحبات القصور؛ ففيه من الأخبار العجائب.

ومن المعلوم أنه لم تتول امرأة حكماً في العرب إلا بلقيس، ثم إذا وجد هناك نسوة حصيفات العقول، حكيمات السياسة، فيكون ذلك من الندرة بمكان، كما فعلت بلقيس حينما بلغها أمر نبي الله سليمان، وقالت: {إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ * إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ} [النمل:29 - 31].

ثم قالت: ماذا تشيرون علي؟ فكان رأيهم رأياً عسكرياً {نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ} [النمل:33]، لكن بحصافة عقلها ورجحان فقهها ما رأت أن تبدأ بالقتال لمن تجهل قوته، ولم تعرف حقيقة ملكه، قالت: لا أنا سأبدأ باللين أولاً {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} [النمل:35]، وكانت تلك المهاداة، وهذا النظر اللين، كما يقال: الحرب الباردة، فكانت موفقة، ورجع الهدهد سفيراً إليها، وجاء الله بها مسلمة، فأسلمت مع سليمان لله رب العالمين.

فهذه استعملت عقلها وحصافتها في قضية تأزمت، وقد صدر من بعض نساء المسلمين في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، أو فيما بعد ذلك من هذا شيء كثير.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015