علو قدره في أفعاله التي تصدر عنه وتنسب إليه: وهذا هو المجال الثالث بعد ذاته وصفاته صلى الله عليه وسلم، وهذا القسم هو أشد ما ينبغي العناية به؛ لأنه موضع التأسي به فيه؛ ولأنه في مجال طاقة البشر، وذلك استجابة لقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ} [الأحزاب:21]؛ لأنه لا يكون التأسي به فيما يخصه في ذاته وصفاته، ولا في نسبه ولا في حسبه، ولا في خَلقه ولا في خُلقه، ولا في الإسراء والمعراج، ولا في شق الصدر، ولا انشقاق القمر، ولا حنين الجذع، ولا نبع الماء من بين أصابعه، ولا تكثير الطعام؛ حين أطعم أهل الخندق من عناق ذبحها جابر، لا تكثير الماء، حين سقى الجيش ودوابه من مزادتي المرأة المشركة، ولا تسبيح الحصى في كفه، ولا في غير ذلك من المعجزات الباهرات التي لا دخل للبشر فيها، ولا طاقة لهم عليها.
إنما التأسي به في أفعاله وأقواله، وإن تفاوت البشر في الطاقة والاستطاعة على حد قوله تعالى: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:35]، وقوله: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26].
وقد بيّن تعالى طرفي التأسي الأدنى والأعلى في قوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ * وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ * إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:126 - 128].
وبعدها مباشرةً يأتي قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء:1]؛ فالحد الأدنى للعامة هو المقاصة بالمثل، ثم نوّه بفضل الصبر وأنه خير للصابرين، ثم ندبه صلى الله عليه وسلم إلى الصبر، وهو مجال التأسي.
وأشار إلى أن يكون الصبر لله ليس لعوض ولا عن عجز، ونظيره قوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّه} [الشورى:40]، وقوله: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [فصلت:34]، فهذا مقام الكملة من الرجال، {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26].