جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: {يا رسول الله! من أحق الناس بحسن صحبتي؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أبوك}.
ولعل البعض قد يقول: لماذا للأم ثلاثة حقوق؟ ولماذا يوصي لها رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاثة حقوق؟
أقول لك يا عبد الله! -وأنت تعرف ذلك إذا أنصفت نفسك-: إنها تنفرد بأشياء كثيرة من المشاق والمتاعب والمصائب والأمراض والهموم والغموم، ومنها الحمل والوضع والرضاع، وكثرة الشفقة والخدمة والحنو فهذه أمك عندما كنت في بطنها إذا تحرك الجنين آذاها في أحشائها، وإذا سكن ذلك الجنين جعلت تضع يدها على بطنها لماذا لا يتحرك؟ ما الذي حصل له؟ فهل نقدر ذلك يا عباد الله؟
فيا لها من حقوق تحتاج إلى مجازاة، ووالله ثم والله مهما بالغ البار بالوالدين لم يؤد من الحقوق إلا القليل.
فيا أيها العاق: يا أيها المضيع لأعظم الحقوق! يا من استعاض من بر الوالدين بالعقوق! -وما أكثر من عق الوالدين في هذه الأزمنة المظلمة! - يا من نسي ما يجب عليه من الحقوق! يا من غفل عما في يديه! ألم تعلم أن بر الوالدين ديَّنٌ عليك، فهل وفيت بهذا الدين؟ فإنك سوف تجد غب ذلك من أولادك يا أيها العاق: يا من نسي الجميل! هل نسيت حملك في بطن أمك تسعة أشهر وكأنها تسع حجج؟
هل نسيت ما حصل للأم من الكرب حين وضعك؟ فقد حصل والله ما يذيب المهج.
هل نسيت الرضاع؟
هل نسيت غسلها منك القاذورات بيدها؟
هل نسيت ذلك السرير الذي في وسط حجرها؟
هل نسيت عندما تفز في الليل المظلم، في الليل البارد، في الليل الشاتي، ثم تضفي عليك الغطاء؟
هل نسيت الأم يا عبد الله؟
إنها تتعب لراحتك، فإن أصابك مرض أو شكاية أظهرت من الأسف فوق النهاية، وأطالت الحزن والبكاء، وبذلت ما في وسعها لترتاح، ولو خُيرت بين حياتك وموتها، لاختارت حياتك بأعلى صوتها وكم حرمتها لذيذ المنام، فسهرت والناس نيام، وكم تلذذت برائحة ملابسك عند فقدك فيا لها من حقوق قابلها بعض الناس بالعقوق والنسيان عندما احتاجت إليه هذه الأم المسكينة، جعلها من أهون الأشياء عليه، نسيها وقدم عليها الأهل والأولاد بالإحسان، وقابل يديها بالنسيان، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان.
إنها أمك صَعُب عليك أمرها وهو يسير، فكم طلبت منك حاجة فقابلتها بالامتناع والاعتذار، وربما قلت بكل شناعة: اللهم أرحنا من هذه العجوز! أنسيت يا هذا زمن الطفولة؟! وربما دعتك لتنقذك من النار، ربما أيقظتك للصلاة، أو لطلب المعاش، فتقابلها بكل وقاحة: اللهم أرحنا من هذه العجوز! الله أكبر يا عباد الله! كيف قابل العاق هذا الإحسان بالتقصير وهجرها، وما لها بعد الله سواه من مصير، هل نسي فزعها عندما يصيبه خوفٌ أو مرض؟!
ثم تذكر يا من نسي الجميل! ويا من عق والده وأبعده! يا من اجتمع مع من اجتمع ليطلب مركزاً ليضم العجائز والشيوخ وكبار السن! أنسيت أباك؟! أنسيت والدك؟! ألم تتذكر تلك اللحظة -والله إنك لا تتذكرها- تلك اللحظة عندما بشر الأب بمجيئك، امتلأ فرحاً وسروراً، ثم بدأ يفكر بأي اسمٍ يسميك تذكر تلك الساعة، وتلك اللحظات، تذكر كدَّ والدك عليك فلا يهدأ على مدى الليالي والأيام يقتحم الشدائد، ويهيم على وجهه لطلب الرزق لأجلك، وتذكر فرحه عندما يراك وأنت في خير وعافية، وتذكر دفاعه عنك بيده ولسانه، وتذكر دعاءه لك في أوقات الإجابة، وتذكر كيف يكون حاله إذا تأخرت عن وقت المجيء، فهو يتململ كأنه على الجمر حتى تحضر وحتى تدخل البيت، لا يقر له قرار، ولا يهنأ بعيش حتى يراك.
فيا أيها العاق! اعرف حق الوالدين هل جزاء الإحسان إلا الإحسان فحذار من العقوق، فقد قال رسول الهدى ونبي الرحمة محمد صلى الله عليه وسلم: {لا يدخل الجنة عاق} وقال صلى الله عليه وسلم: {لعن الله العاق لوالديه} وقال صلى الله عليه وسلم: {لعن الله من سب أباه، لعن الله من سب أمه}.
اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، اللهم أصلحنا وأصلح نياتنا وذرياتنا، واجعلنا من البارين يا رب العالمين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.