وهكذا عمر الإنسان، يتطلع إلى آخره تطلع البعيد، فإذا به قد هجم عليه ملك الموت بِغِرَّة وبدون إنذار، {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19].
عباد الله! أطيلوا الفكر في الموت، وأكثروا من ذكر هادم اللذات، وأهواله وشدائده وسكراته، وتفكروا يا عباد الله في شدة النزع والألم الذي يعانيه المحتضر عند خروج الروح من البدن، حتى قيل: إنه أشد من الضرب بالسيوف، ونشر المناشير، وقرظ المقاريظ؛ لأن الموت يهجم على الإنسان، ويستغرق جميع أجزائه من كل عِرق من العروق، وعصبٍ من الأعصاب، ومفصلٍ من المفاصل، ومن أصل كل شعرة وبشرة، من مفرق رأسه إلى القدمين، {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} [القيامة:26 - 30].
فعند ذلك لا تسأل عن حالة المحتضر وقد نزلت به الكروب والآلام، ومع ذلك فهو لا يقدر على الصياح والبكاء، مع شدة الألم وزيادة الكرب، حيث قهر الموت منه كل قوة، وأضعف كل جارحة، فلم يبق له قوة الاستغاثة، أما العقل فقد غشيه ووَشْوَشَه، وأما اللسان فقد حجزه وأبكمه، وأما الأطراف فقد أضعفها وأوهنها وخدرها، فإن بقي فيه قوة سمعتَ له عند نزع الروح وجذبها خوار وغرغرة من حلقه وصدره، وقد تغير لونه وارْبَدَّ وجهه، وشخص بصره، وحشرج صدره، واقشعرَّ جلدُه، وتشنجت أصابعُه، حتى كأنه ظهر من التراب الذي هو أصله، فالألم منتشر في داخله وخارجه.
فلا تسأل عن جسم يُجذب كل عرقٍ على حدة، ثم يموت كل عضوٍ من أعضائه تدريجياً، فتبرد أولاً قدماه، ثم ساقاه، ثم فخذاه، ثم يبلغ حتى بها إلى الحلقوم، فعند ذلك ينقطع نظره عن الدنيا وأهلها، وينسى ما كان قد حافظ عليه في الحياة، وعند ذلك تعظم حسرة المفرط، ويندم حين لا ينفعه الندم.
أخي المسلم! أوصيك إذا حضرت محتضِراً، فلا تستعجل عليه في تلقين الشهادة، لعل الله يخرج روحه على كلمة (لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله) فإن خرجت روحه على (لا إله إلا الله، محمد رسول الله) فهنيئاً له حسن الخاتمة، فقد ورد في الأثر: {من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة} أما من هذى، وجعل يطرف بالكلمات التي تقشعر منها الجلود، ويندى لها الجبين، فوالله إنها لحالة يُرثى لها، كم قيل لمحتضِر: قل (لا إله إلا الله) قال إنه كافر بـ (لا إله إلا الله).
فيا عبد الله! احذر أن تخرج روحك على سوء الخاتمة، فأنت في الحياة الدنيا في ميدان فسيح لمزرعة الأعمال الصالحة، فمن عاش على خير، هنيئاً له أن يحسن الله له الخاتمة.
{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت:30] ثم استقاموا يا عبد الله، على أي شيء استقاموا؟ أعَلَى السهر والتمثيليات؟ أم مع البَلُوْت والكِنْكان؟ أم على أكل الربا، وغش المسلمين، والخداع؟ أم على أكل الرشوة؟ أم على التبرج والسفور؟ مسكين من أدخل إلى بيته تلك الملاهي، فعند الممات يتمنى أن يقول: أخرجوا هذه الملاهي، ولكن حِيل بينهم وبين ما يشتهون، إنما يُقال ذلك لمن استقام على طاعة الله: {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ} [فصلت:30].
اللهم اجعلنا من أهل الجنة، ولا تجعلنا من أهل النار.
يا عبد الله! ارحم نفسك قبل أن ينزل بك هادم اللذات، وقد حلقت لحيتك، وملأت بيتك بالمنكرات، والملاهي.
يا عبد الله! اتق الله، ولا تغفل في هذه الحياة عن الأعمال الصالحة، خشية أن ينزل بك هادم اللذات وأنت على معاصي الله.
عباد الله! تيقظوا من هذه الغفلات، يا للأسف الشديد، على مجالس تقتل في غير ذلك، يا للأسف الشديد على عُمْر فَرَّط فيه صاحبُه، لم يعرف فيه بيوت الله، إلا يوم الجمعة أو في رمضان، يا ويله إذا نزل به هادم اللذات، وقيل له: قل (لا إله إلا الله) فمن أين له أن يقول: (لا إله إلا الله) وهو لا يعرف بيوت الله؟! من أين له أن يقول: (لا إله إلا الله) وهو يسهر طوال الليال مع الأفلام والتمثيليات، والأغاني، وكتب الحداثة السخيفة، يقضي وقته ذلك الوقت الذي هو مسئول عنه بين يدي الله، بين يدي جبار الأرض والسماوات؟!
فأين الاستعداد يا عبد الله؟! أين الاستعداد لهادم اللذات؟ أين الاستعداد لمفرق الجماعات، وقد أتوا بالطبيب، والطبيب لا ينفع إذا نزل بك هادم اللذات.
عبد الله! إذا زرت المريض فذكره بهادم اللذات، وقل له: تُب يا أخي مما جنيت واستعد، ومع الأسف الشديد كم نزور من المرضى، وما منا من يقول: اتق الله, واذكر الله، إنما نقول له: إذا مرضت ولم تُشفَ اذهب إلى أمريكا، أو إلى بريطانيا، حتى تموت في بلاد الكفار.
نعم السبب مطلوب، ولكن إذا نزل بك الموت، وإذا جاءت سكرة الموت فلا ينفع حينئذٍ الطبيب، فعليك يا عبد الله أن تُذَكِّر أخاك المسلم، وتعينه على ذكر الله، وتذكره أن الحياة لها نهاية، وأن الحياة الباقية في جنة عرضها السماوات والأرض، أو في جهنم وبئس المصير.
عباد الله! إن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
عباد الله! صلوا على رسول الله امتثالاً لأمر الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] ويقول صلى الله عليه وسلم: {مَن صلى عليَّ صلاةً صلى الله عليه بها عشراً} اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، الذي قال: {زوروا القبور، فإنها تذكركم بالآخرة}.
زوروا القبور يا عباد الله، تذكروا إذا وضعتم أخاكم في قبره، وهو جثة هامدة، لا ينازعكم من الأمر شيئاً، والله لو كان حياً ما أدخلتموه من باب المقبرة، فانظروا إليه وهو جثة هامدة، تضعونه في هذا الصدع من الأرض، وتصفون عليه اللبنات، وتَحْثُون عليه التراب، وترجعون كأن لم تفعلوا شيئاً، والله لقد قست القلوب، بل ماتت، كيف ندفن الموتى ولا نعتبر يا عباد الله؟! كيف لا نعتبر، ولا نتذكر أنَّا بهم لاحقون؟! وسواءً أقرُب الأمد أو بَعُد فإنا سوف نُدفن كما دفنوا، سوف تُصف علينا اللبنات، ونُترك في صدع من الأرض، لا أنيس ولا جليس إلا الأعمال يا عباد الله.
اللهم آنس غربتنا في القبور، اللهم آنس غربتنا في القبور، اللهم آنس غربتنا في القبور.
اللهم ارحم ذلنا عليك يوم العرض والنشور {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89] اللهم رحمتك نرجو يا أرحم الراحمين.
اللهم اجعل آخر كلامنا من الدنيا شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله.
اللهم توفنا وأنت راضٍ عنا يا رب العالمين.
عباد الله! صلوا على خاتم المرسلين، صلوا على الناصح الأمين، الذي ترككم على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها.
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، اللهم اجمعنا به في جنات النعيم، اللهم اسقنا من حوض نبيك محمد شربة هنيئة مريئة، لا نظمأ بعدها أبداً، يا رب العالمين.
اللهم اجعلنا ممن يُعطى كتابه باليمين.
وأقم الصلاة، إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.