ثم إن هناك -كما ذكرت لكم في وسط الكلام- فضلاً عظيماً أعده الله لأهل الجنة -اللهم اجعلنا منهم يا رب العالمين- ولعلنا سمعناه مراتٍ ومرات، ولكن هذا الكلام يا إخواني والله لا يمل منه؛ لأنه خبر من الله جل وعلا، وخبر من رسوله صلى الله عليه وسلم جمعه لنا ابن القيم رحمه الله تعالى، وساقه لنا في كلامٍ لطيف، ساق لنا معنى الآيات ومعنى حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال رحمه الله تعالى:
ينادي المنادي: يا أهل الجنة إن ربكم تبارك وتعالى يستزيركم فحيَّ على زيارته، فيقولون: سمعاً وطاعة، وينهضون إلى الزيارة مبادرين، فإذا بالنجائب قد أعدت لهم، فيستوون على ظهورها مسرعين، حتى إذا انتهوا إلى الوادي الأفيح الذي جعل لهم موعداً، وجمعوا هناك، فلم يغادر الداعي منهم أحداً، أمر الرب تبارك وتعالى بكرسيه فنصب هناك، ثم نصبت لهم منابر من نور، ومنابر من لؤلؤ، ومنابر من زبرجد، ومنابر من ذهب، ومنابر من فضة، وجلس أدناهم، وحاشاهم أن يكون فيهم دني على كثبان المسك، ما يرون أن أصحاب الكراسي فوقهم في العطايا.
حتى إذا استقرت بهم مجالسهم، واطمأنت بهم أماكنهم نادى المنادي: يا أهل الجنة! إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه، فيقولون: ما هو؟ ألم يبيض وجوهنا؟ ويثقل موازيننا؟ ويدخلنا الجنة؟ ويزحزحنا عن النار؟
فبينما هم كذلك إذ سطع لهم نورٌ أشرقت له الجنة، فرفعوا رءوسهم؛ فإذا الجبار جل جلاله وتقدست أسماؤه قد أشرف عليهم من فوقهم وقال: يا أهل الجنة سلام عليكم، فلا ترد هذه التحية بأحسن من قولهم: اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام، فيتجلى لهم الرب تبارك وتعالى يضحك إليهم ويقول: يا أهل الجنة! فيكون أول ما يسمعون منه تعالى: أين عبادي الذين أطاعوني بالغيب ولم يروني فهذا يوم المزيد؟
فيجتمعون على كلمة واحدة: أن قد رضينا فارض عنا، فيقول: يا أهل الجنة! إني لو لم أرض عنكم لم أسكنكم جنتي، هذا يوم المزيد فاسألوني، فيجتمعون على كلمة واحدة: أرنا وجهك ننظر إليه، فيكشف لهم الرب جل جلاله الحجب، ويتجلى لهم، ويغشاهم من نوره ما لو أن الله تعالى قضى ألا يحترقوا لاحترقوا، ولا يبقى في ذلك المجلس أحد إلا حاضره ربه تعالى محاضرة، حتى إنه ليقول: يا فلان! أتذكر يوم فعلت كذا وكذا، يذكره ببعض غدراته في الدنيا، فيقول: يا رب ألم تغفر لي؟ فيقول: بلى، بمغفرتي بلغت منزلتك هذه.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، اللهم تجاوز عن سيئاتنا يا أرحم الراحمين.
نعم.
هكذا يحصل إخواني في الله كما ورد في الحديث الصحيح: {أن الله يضع كنفه على عبده المؤمن ويقرره ببعض ذنوبه} الله أكبر! ولكن يا إخواني علينا أن نبادر بالتوبة النصوح! مادام باب التوبة مفتوحاً؛ لأن نهاية التوبة يا إخواني إذا طلعت الشمس من المغرب، كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم: {إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها} ولكن هناك أمرٌ أقرب من هذا وهو قوله صلى الله عليه وسلم: {إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر} أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
فما يدريك يا عبد الله متى تبلغ الروح الحلقوم؛ لأن بعض الناس يدخل عليه الشيطان ويقول: أنت الآن في زمن الشباب، وبعد كبرك حين تبلغ من العمر كذا تتوب، فنقول له: لا يغرنك الشيطان، تب إلى الله عز وجل، كفى ما اقترفت من الذنوب يا عبد الله! تب وارجع إلى الله، وأنتِ يا أمة الله! بادري بالتوبة النصوح إلى الله سبحانه وتعالى.
واسمع إلى هذا الخبر يا أخي! إن الله جل وعلا يأتي بالمؤمن ويضع عليه كنفه ويقرره ببعض ذنوبه، وفي تلك المحاضرة قال ابن القيم رحمه الله: ولا يبقى في ذلك المجلس أحد إلا حاضره ربه تعالى محاضرة حتى إنه ليقول: يا فلان أتذكر يوم فعلت كذا وكذا، يذكره ببعض غدراته في الدنيا فيقول: يا رب ألم تغفر لي؟ فيقول: بلى، بمغفرتي بلغت منزلتك هذه، يقول ابن القيم رحمه الله: فيا لذة الأسماع بتلك المحاضرة! ويا قرة عيون الأبرار بالنظر إلى وجهه الكريم في الدار الآخرة!