إخواني وأخواتي في الله: تذكروا عندما يجلس الأبناء حول أبيهم وقد نزل به هادم اللذات، يبكون وينادون بصوت يقطع نياط القلوب، الولد يقول: هل تعرفني يا أبتاه؟ والأقارب حوله يقولون: هل تعرفنا يا فلان؟ وهو ينظر إليهم وعيناه قد اغرورقت بالدموع، ينظر إليهم وقد نزل به هادم اللذات، فلا يستطيع الرد عليه، قد تعذر عليه الكلام، يرونه منطرحاً بين أيديهم، يعالج سكرات الموت وهم لا يشعرون {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19]
ثم لا يلبثون إلا قليلاً وهم ينظرون إليه وإذا بملك الموت قد قبض الروح، ومال الأنف وفتح الفم وشخص البصر {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19] فيا لها من ساعة يتكدر فيها الصفا، ويتنغص فيها العيش، إذا نزل هادم اللذات فإنه والله أمر جلل، وخطر هائل، وخطب فادح لابد منه لكل مخلوق.
يقول بعضهم رحمه الله:
ليس الغريب غريب الشام واليمن ِ إن الغريب غريب اللحد والكفنِ
تمر ساعات أيامي بلا ندمٍ ولا بكاء ولا خوف ولا حزنِ
سفري بعيد وزادي لن يبلغني وقوتي ضعفت والموت يطلبني
ما أحلم الله عني حيث أمهلني وقد تماديت في ذنبي ويسترني
أنا الذي أغلق الأبواب مجتهداً على المعاصي وعين الله تبصرني
يا زلةً كتبت في غفلة ذهبت يا حسرةً بقيت في القلب تقتلني
دع الملامة عني يا من كان يعذلني لو كنت تعلم ما بي كنت تعذرني
دعني أسح دموعاً لا انقطاع لها فهل عسى عبرة منها تخلصني
كأنني بين تلك الأهل منطرحاً على الفراش وأيدهم تقلبني
إخواني: تذكروا ذلك المصرع الذي سوف يمر بنا جميعاً.
وقد أتوا بطبيب كي يعالجني ولم أرَ الطب هذا اليوم ينفعني
واشتد نزعي وصار الموت يجذبها من كل عرقٍ بلا رفق ولا هونِ
واستخرج الروح مني في تغرغرها وصار في الحلق مراً حين غرغرني
وغمضوني وراح الكل وانصرفوا بعد الإياس وجدوا في شر الكفن
وقام من كان أولى الناس في عجلٍ إلى المغسل يأتيني يغسلني
فجاءني رجل منهم فجردني من الثياب وأعراني وأفردني
أما المرأة فتأتيها امرأة فتجردها وتغسلها، وتقلبها على اللوح لا حول لها ولا قوة، فلا إله إلا الله!
وأطرحوني على الألواح منفرداً وصار فوقي خرير الما ينظفني
ثم بعد ذلك ما هي آخر كسوة يلبسها من هذه الدنيا؟
وألبسوني ثياباً لا كمام لها وصار زادي حنوطاً حين حنطني
وقدموني إلى المحراب وانصرفوا خلف الإمام فصلى ثم ودعني
صلوا علي صلاة لا ركوع لها ولا سجود لعل الله يرحمني
وأنزلوني إلى قبري على مهلٍ وأنزلوا واحداً منهم يلحدني
فقام محتزماً بالعزم مشتملاً وصفف اللبن من فوقي وفارقني
وقال هلُّوا عليه الترب واغتنموا حسن الثواب من الرحمن ذي المنن
في ظلمة القبر لا أم هناك ولا أبٌ شفيق ولا أخ يؤنسني