الحمد لله، الحمد لله الذي شرع لعباده التقرب إليه بذبح القربان، وذكر النحر والصلاة في محكم القرآن.
وأشهد أن لا إله إلا اله وحده لا شريك له ذو الفضل والامتنان والإحسان، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله أفضل من قام بشرائع الإسلام، وأفضل من حقق الإيمان، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان، وسلَّم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فنحن في استقبال يوم الحج الأكبر، وعيد الأضحى المبارك، الذي حصلت فيه السنة التي سنها أبو الأنبياء أبونا إبراهيم عليه أفضل الصلاة والتسليم، وحذا حذوه واقتدى به نبينا وإمامنا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم.
أمة الإسلام: لقد حصل لأبينا إبراهيم الكثير من الابتلاء والامتحان، فقد جاهد في الله حق الجهاد.
ففي أول أمره لما عرف اللهَ حق المعرفة، وعرف أن قومه على غير حق حتى أبُاه، الذي كان من أكبر الكفار، وأنهم ضالُّون بعبادتهم الأوثان من دون الله، عزم وشمر عن ساعدَيه مستعيناً بالله الحي القيوم على تكسير الأصنام التي يعبدونها من دون الله، فوثب عليه قومه، وصارت المخاصمة والمؤامرة بينه وبين القوم، ونصره الله الذي وعد بالنصر: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا} [غافر:51] ونصره الله عليهم بحجته الظاهرة، فلجئوا إلى القوة لينصروا ما هم عليه من السفه والطغيان، فكادهم الرب جل وعلا، وأعلى كلمته ودينه وبرهانه، كما قال جل وعلا: {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ} [الأنبياء:68 - 70].
وذلك بأنهم شرعوا يجمعون حطباً من جميع الأماكن، حتى أن المرأة منهم كانت إذا مرضت تنذر لئن عوفيت لتحملن حطباً لحرق إبراهيم، ثم عمدوا إلى أخاديد عظيمة فوضعوا فيها الحطب، وأشعلوا فيها النار، فاضطرمت وتأججت والتهبت، وعلا لها شررٌ لَمْ يُرَ مثله قط، ثم وضعوا إبراهيم عليه السلام في كفة منجنيق صنعه لهم رجلٌ من الأقباط، وكان أول من صنع المنجنيق، فخسف الله به الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة.
وهكذا كل مَن سن سنة سيئة فسوف يعاقبه الله، ومن سن سنة حسنة فسوف يُعْظِم الله له الأجر.
أمة الإسلام: لما سن ذاك الخبيث تلك السنة التي وُضع فيها إبراهيم ليُلْقُونه في النار، جعل الله عقوبته أن خسف به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة.
ثم أخذوا يقيدون إبراهيم ويكتفونه وهو في كفة المنجنيق، وهو يقول: لا إله إلا أنت سبحانك أنت رب العالمين، لا إله إلا أنت سبحانك أنت رب العالمين، لك الحمد ولك الملك لا شريك لك، فلما ألقوه في النار قال: حسبي الله نعم الوكيل.
لذلك يقول بعض المفسرين: لما عرض لإبراهيم جبريل عليه السلام وهو في الهواء قال: يا إبراهيم ألك حاجة؟ قال: أما إليك فلا؛ لأنه فوَّض أمره لله القادر على كل شيء.
يقول ابن عباس رضي الله عنه: [[إن ملك المطر كان يقول: متى أؤمَر فأرسِل المطر لأطفئ النار عن إبراهيم؟!]] ولكن أمر الله أرحم الرحمين، القادر على كل شيء، الذي بيده أزِمَّة الأمور، أسْمَعُ وأسْرَعُ: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69].
يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: [[برداً وسلاماً، أي: لا تَضُرِّيْه]].
قال بعض المفسرين: لولا أن الله تعالى قال: {وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69] لآذى إبراهيم بردها، ولكن جعلها برداً وسلاماً حتى صار إبراهيم في مثل الجوبة حوله نار وهو في روضة خضراء، والناس ينظرون ولا يقدرون الوصول إليه، ولا هو يخرج إليهم.
ويُروى أن والد إبراهيم، الزنديق الملحد الكافر الخبيث، لما نظر إلى إبراهيم في تلك الروضة قال: نِعْم الرب ربك يا إبراهيم!
أمة الإسلام! هذا جزاء مَن يصبر على الدعوة إلى الله، فإن الله لا يضيعه، قال الله: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا} [غافر:51].
يروى أن إبراهيم مكث في المكان الذي ألقوه فيه أربعين أو خمسين يوماً، وأنه قال: ما من أيام وليالي أطيب عيشاً منها إذ كنت فيها، وودت أن عيشي وحياتي كلها مثل ذلك.