الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لم يزل بصفات الكمال متصفاً، وبآثار ربوبيته وآلائه إلى عباده متعرفاً، أحمده وأشكره، ولا أحصي ثناءً عليه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله عزَّ وجلَّ.
عباد الله: لقد استولت على القلوب الغفلة؛ حتى أمرضتها، بل أماتت بعض القلوب، فأصبحت لا تخشع عند ذكر الله ولا تلين ولا تعتبر فيما يحدث في هذا الكون من العبر والمحن، فإن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار.
عباد الله: ألا نعتبر بهذه الرياح التي تهب؟ فإنها تكون على بعض الناس نقمة، وتكون لبعضهم رحمة.
ألا نعتبر بهذه الأمطار التي تنزل من السماء بقدرة الله عزَّ وجلَّ؟ فإنها تكون على بعض الناس نقمة، ولبعضهم رحمة من الله تعالى.
هل نعتبر بذلك يا عباد الله أم نقول: فيضانات، وغيرها من التعبيرات التي أماتت القلوب، ولا حول ولا قوة إلا بالله؟!
هل نعتبر بكسوف الشمس وبخسوف القمر؟ إن الشمس لا تَكْسِف عبثاً، ولا القمر يخسف عبثاً، بل سوف يأتي يوم ينخسف القمر والشمس فلا يريا بعد ذلك اليوم.
يا عباد الله: كل ذلك فيه عبرة لمن يعتبر، كنا إذا رأينا الأموات قبل سنين أصابنا الرعب، وانصرفت هِمَمُنا عن الأكل والشرب؛ لما نرى من هذه الجثث الهامدة التي ارتحلت عن الدنيا وانتقلت.
لما كانت القلوب واعية تعتبر وتبصر، كنا إذا رأينا الميت، هلَّت العيون بالدمع، وشعُر القلب بالحزن، وجعل البعض يقول، بل كلنا: نسترجع، ونحوقل، إنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله، أما الآن لما قست القلوب، بل مات بعضها، صار البعض من الناس يأخذ تلك الأعضاء -الرأس، والأيدي، والأرجل من ناحية في تلك الحوادث التي تقع كل حين بعد حين- ولا تلين القلوب، ولا تعتبر، ونخرج الأموات من سلة الثلاجة في المستشفى، ولا نعتبر بذلك يا عباد الله، لماذا؟
لأن القلوب مرضت وغفلت وابتعدت عن الله عزَّ وجلَّ، وأبعد القلوب من الله: القلب القاسي.
عباد الله: كيف لا تحزن القلوب ولا تدمع العيون إذا رأت تلك الجثث الهامدة، بينما كانت في صحة متمتعة، فرحة بقوتها وشبابها، لا يخطر لها الضعف على قلب، ولا الموت على بال إذ هجم عليها المرض، وجاء الضعف بعد القوة، وحل الهم من نفسه محل الفرح، والكدر محل الصفاء، ولم يعد يؤنسه جليس، ولا أهل ولا أولاد ولا مال ولا آلات لهو من أغانٍ وغيرها مما كان يفكر فيه ويرغبه في أيام الصحة والفراغ.
ثم بعد تلك الصحة والفرح ينزل به هادم اللذات، ثم يكون جثة هامدة، يفقد القوى، ويفقد الصحة، ولا يستأنس بأحد: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19].
نعم.
ألا تخشع القلوب، ألا تَهْمُل العيون بالدمع وهي ترى إنساناً قد استفحل به المرض، ولم يعد الطبيب والدواء يفيد به؟ ترى ذلك عند قرب الموت، يستشعر الندم على ما مضى وفات من التفريط والإهمال، وقد نزل به ملك الموت وتغير اللون وغارت العينان ومال العنق والأنف، وذهب الحُسن والجمال، وخَرُس اللسان، وصار لا ينطق بالكلام، وصار بين أهله وأصدقائه ينظر ولا يفعل، ويسمع ولا ينطق، إنها جثة هامدة.
كيف لا تخشع القلوب ولا تدمع العيون ونحن نرى تلك الجثث يا عباد الله؟! صار يقلب بصره في من حوله من الأولاد والأهل والأقارب؟ ألا ترحمه يا عبد الله! وهو يقلب بصره فيمن حوله من الأهل والأولاد، وهم كذلك ينظرون ما يقاسيه من كرب السياط، وشدة السكرات؟ ولكنهم عن إنقاذه عاجزون، يقول تعالى: {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ} [الواقعة:83 - 85].
ويقول أيضاً: {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} [المدثر:26 - 27] ائتونا بالطبيب، ائتوا بالأطباء جميعاً، احملوه إلى بلد غير بلده، ابحثوا عن الأطباء {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19] ويقول تعالى: {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} [القيامة:27 - 30].
ألا تخشع القلوب يا عباد الله؟ ألا تَهْمُل العيون بالدمع من هذا المنظر الفظيع، من إنسان يعالج سكرات الموت، ثم لا يزال يعالج سكرات الموت وشدائده حتى يتتابع النَّفَس، ويختل نبض القلب، ويتعطل السمع والبصر، ويحلُّ الأجل، وينفذ القضاء، وتفيض الروح إلى السماء، خرجت الروح إلى السماء من ذلك الجسد، ثم صار جثة هامدة، وجيفة بين أهله وعشيرته.
قبل أن تخرج روحه يعاني مما حصل منه في حياته، إن كان مرابياً محارباً لله ولرسوله، يعاني من ذلك، ويقول: يا ويلتاه يا ويلتاه مما أمامي من الحساب والعذاب الشديد، يا ويلتاه من عناء تلك الأموال التي جمعتُها من الربا.
إن كان غاشاً، إن كان مخادعاً، إن كان حلاَّفاً فإنه يقول كذلك، نسأل الله العفو والعافية.
إن كان من الذين أدخل على أهله الملاهي، فهو يتوجع في حال موته، يريد أن يقول لأهله: أخرجوا هذه الملاهي التي فتنتكم بها عن بيتي؛ ولكنهم لا يفقهون ذلك، ثم يموت، ويكون وزره مثل أوزارهم، باستعمالهم تلك الملاهي، والعياذ بالله.