أما أبو سفيان فلحق بساحل البحر ونجا بالعير، ولما رأى أنه قد نجا كتب إلى قريش: "أن ارجعوا فإنكم إنما خرجتم لتحرزوا عيركم"، فأتاهم الخبر وهم بـ الجحفة، فهموا بالرجوع، فقال أبو جهل لعنه الله: والله لن نرجع حتى نقدم بدراً، فنقيم بها، ونشرب الخمور، وتغني على رءوسنا القينات، ونطعم من حضرنا من العرب، وتخافنا العرب بعد ذلك -الحمد الله الذي رد كيده في نحره، وجعله من أذل الناس- فأشار الأخنس بن شريق عليهم بالرجوع، فعصوه، فرجع هو وبنو زُهْرة، فلم يشهدوا بدراً، فلم يشهد بدراً زُهْرِيٌُّ، فاغتبطت بنو زُهرة بعدُ برأي الأخنس، وأرادت بنو هاشم الرجوع، فاشتد عليهم أبو جهل برأيه الأعمى الفاسد، وقال: لا تفارقنا هذه العصابة حتى نرجع، فسار المشركون سراعاً يريدون الماء.
وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً وسعداً والزبير إلى بدر يلتمسون الخبر، فقَدِموا بعبدين لقريش، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي، فسألَهُما أصحابُه: من أنتما؟ قالا: نحن سقاة لقريش، فكره ذلك أصحابه رضي الله عنهم، وودوا لو كانا لعير أبي سفيان، ولما فرغ صلى الله عليه وسلم من صلاته قال لهما: {أخبراني، أين قريش؟ قالا: وراء هذا الكثيب، فقال: كم القوم؟ فقالا: لا علم لنا، فقال صلى الله عليه وسلم: كم ينحرون كل يوم؟ -أي: كم يذبحون من الذبائح؟ - فقالا: يوماً عشراً -عشراً من الْجَزور- ويوماً تسعاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم -بفراسته- القوم ما بين تسعمائة إلى الألف}.